+ A
A -
تسيطر الرؤية الداخلية الذاتية على صياغة النص الشعري ذي الصبغ السردية التي تكون الأنا الشاعرة فيها حاضرة بقوة، فعندما تنقطع الرؤية الخارجية عن المراقب الموضوعي لا يمكن الوصول إلى هذه الحالة التي يستحيل على المشاهد الوصول إليها إلا بوساطة هذه الأنا الشاعرة وحينها ترى الأشياء والعالم من منظورها هي وتجسد هذه الرؤية في عدة نماذج، يقول محمود نسيم في طائر الفخار:
استألفتُ شكلي، فارتسمتُ ميتاً بمعجزاتي
وامتلكتُ ما رأيتُ
وفاجأتني بغتةً كطلقةٍ كاذبةٍ، نفسي
وعادني انقباضُ الحسِّ
فاستخرجتُ أنقاضي من الأحماضِ
واستطلعتُ أمسي
وانضويتُ، آسناً، في بُركةٍ تلألأتْ
القصيدة أشبه بمونولوج داخلي عن طريق التداعيات الحلمية، أو التعليقات الخارجية والضمير «أنا» يدل على طبيعة اتحادية بين شخصية السارد والبطل، فهو شخص واحد. كما يدل دلالة واضحة على نية مبيتة مسبقاً، لحكي قصة ذاتية، وعلى انفراد فكر الشخصية، فهي تمثل الحقيقة التي وعت مفهوم القضايا؛ وهذا يجعل الحكاية المسرودة مندمجة في روح المؤلف، فيتلاشى ذلك الحاجز الزمني الذي كنا ألفناه، بين زمن السرد وزمن السارد، على الأقل ظاهريا، كما أنه يذيب النص السردي في الناص، ويجعل المتلقي يلتصق بالعمل السردي، ويتعلق به أكثر، متوهماً أن المؤلف إحدى الشخصيات التي تنهض على قيامها الرواية، فهو يلغي دور المؤلف، قياساً بالنسبة للمتلقي الذي لا يكاد يحس بوجوده، يقول محمد أبو دومة:
دعْنا..
ما عدْتَ..
..وما عدنا..
لا شفتي شفَتُكْ..، لا شفتُكْ شفتي..
لا ثمرك ثمري..،لا ثمري ثمرُكْ..
لا ماؤكَ مائي..، لا مائي ماؤكَ
ذقتَ.. كما.. ذقتُ
أعطيتَ.. وأعطيتُ
وعُمْتَ بمائي.. وأنا في مائك عُمْتُ..
ومن بين المزايا التي دعت المؤلف إلى اللجوء إلى استثمار ضمير المخاطب في النص: أنه يجعل الحدث يندفع جملة واحدة في العمل السردي، لتجنب انقطاع الوعي، ويتيح وصف الوعي في حال كينونته، من قبل الشخصية نفسها، ويتيح وصف وضع الشخصية، والطريقة التي تولد بها اللغة فيها. والشاعر يدمج الضميرين الأساسيين في النص «الأنا والأنت»، فهناك حالة من التوحد بين الراوي والمروي له.
وتأتي تعرية النفس من داخلها عبر خارجها، عبر الأنا، ولعل وجود مثل هذا النمط السردي في هذا العمل الفني، يجعل «الأنا» مجسداً لما يطلق عليه «الرؤية بالمصاحبة» في عرض الأحداث ونقلها للمتلقي، وذلك بحكم وجود السارد كشخصية في النص؛ أي أن كل معلومة سردية، أو كل سر من أسرار الشريط السردي، يغتدي متصاحباً مع «أنا» السارد.
وهذا التوحد هو ما جعل السارد يُظهر كلامَهُ كأنَّه وصية أو حكمة، لكن التنقل بين الضميرين قد يكون وسيلة لسيطرة ضمير على الآخر، حتى وإن قل وروده في النص، ففي النص التالي ينتشر ضمير المتكلم «لغة السارد» ويقل ضمير المخاطب «المروي له»، لكن يسيطر المروي له على النص، ويكفي أن ندرك تأثير «شوقكم» يقول محمد أبو دومة:
عرِّفوني ما المحبَّات الحُمَيَّا..
عرِّفوني شوقكم..،
ثم اسألوني بعدها..
إنني الصب المُعَنَّى..
رَهْنُ تجريح المَلَامْ..
وجود ضمير المخاطب هو الذي يحدد المروي له بوصفه رتبة سردية، لكن صورة القارئ حاضرة باستمرار في وعي الكاتب حتى ولو كانت مجردة أو تطلبت من الكاتب أن يفرض على نفسه أن يكون قارئ عمله. الأكيد أن هذه التقنية تسعى بدورها إلى مساعدة القارئ بنحو ما، للولوج داخل النص، وربطه بعلاقة مع السارد، المروي له.
وإذا أردنا أن نعرف المروي له فـ«هو الشخص الذي يُروى له في النص». ويوجد على الأقل مروي له واحد (يتم تقديمه على نحو صريح نسبيا) لكل سرد، يتموقع على نفس «المستوى الحكائي»DIEGETIC LEVEL الذي يوجد فيه الراوي الذي يخاطبه، ويمكن أن يوجد بالطبع أكثر من «مروي له» تتم مخاطبة كل منهم بواسطة نفس الراوي، أو بواسطة راو آخر. إن «المروي له» شأنه شأن الراوي يمكن أن يقدم كشخصية تلعب دورا تتفاوت أهميته في المواقف والأحداث المروية، ويتعين التمييز بين «المروي له»- وهو مجرد مركب نصي– وبين القارئ «الحقيقي» أو المتلقي.
إن القارئ الحقيقي يمكن أن يقرأ سرودا مختلفة (يضم كل منها «مروي له» مختلفا) كما يمكن أن يضم نفس السرد (الذي يضم دائما نفس مجموعة المروي لهم) مجموعة متفاوتة لا نهائية من القراء. ويجب أيضا التمييز بين «المروي له» و«القارئ الضمني» IMPLIED READER إن «المروي له» يمثل جمهور الراوي، ويوجد في النص على هذا الأساس، أما الأخير فيمثل جمهور«المؤلف الضمني»IMPLIED AUTHOUR (ويتم استنباطه من النص ككل). وعلى الرغم من أن التمييز يمكن أن يكون إشكاليا، فإنه يكون أحيانا غاية في الوضوح.
هذه الصورة للمروي له أو المسرود له يمكن إعادة بنائها بواسطة تجميع الفقرات السردية ذات الضمير المخاطب، فضلا عن فقرات سردية مع ضمير المتكلم الجمعي، أو تساؤلات الراوي.
إن للمروي له وظائف يقوم بها في العملية السردية، فهو يتوسط بين الراوي والقرّاء – بداية- أو بين الكاتب والقارئ، أو يتم تشخيصه داخل السرد، أو يقيم إطارا للسرد، فيتم تأكيد موضوعات بعينها، أو يسهم في تطوير الحبكة، أو يصبح المتحدث باسم الجانب الأخلاقي في العمل، فالمروي له صوت سردي مثل صوت الراوي، وهو يُقدَّم له السرد، ويحتل موقعا على مستوى السرد نفسه DIEGETIC LEVEL، حيث يُرسِل الراوي إليه، أو إليها. وهذا الحديث ينبهنا إلى المسافة السردية التي تحيل إلى عدد من العلاقات، منها علاقة الراوي بالمروي، سواء الشخصيات أو الأحداث، وكذلك علاقة الراوي بالمؤلف الضمني، ثم علاقة المؤلف الضمني ذاته بالشخصيات، وأحيانا بالقارئ الضمني والقارئ الحقيقي، وأخيرا علاقة الراوي بالمروي له.
copy short url   نسخ
24/10/2016
2980