+ A
A -
صباح الحرف.. مساء الحرف..
هي لوحة باذخة الألوان والمعاني، لوحة تُجاري الشغفَ واللوعةَ وحُرقةَ الأماني، يَرْسُمُها فنان بإحساسه الْمُرْهَف مُتَوَسِّلاً بريشة الحَرْف..
ما أَرَقّها من ريشة تَرْفَعُكَ عن المرئي الرتيب وتُسافر بكَ على ظهر غيمة الحَرْف لِتُمْطِرَ أشجارُ انتظارِكَ ما يُبْهِرُ من خُضْرةٍ تُضَاهي الأملَ المنشور على حبال السطور..
السِّحْرُ الدَّفين!
السحر الدفين لمعزوفة خيوط من نور..
خيوط من نور تُجَنِّدُكَ لعُبور الحُلْم على قارب التأمل تَجْدفُ بعينيك وقلبِك..
تجدف بعينيك وقلبك لِتَقطفَ من كل مَوجةِ حَرْفٍ زُمُرُّدةَ معنى..
كان سُلَّمُ الحَرْف..
وكان عنقودُ الألوان..
ومن هناك بدأتْ رحلةُ سنان.
أدعوكم إلى سَفَر قصير في عالَم عاشق الحروف والألوان..
إنه الشاعر والفنان سنان المسلماني.
وجدْتُ له في «الوطن» نوافذ مشرعة على القَطْف، قَطْف أول الحَرْف قبل أن أصافحَ كَفَّ الـ «مُزن»:
«أنا نطفةٌ أَشْعَلَها
الهوى» (سنان المسلماني، نص «غواص»).
أفلا يستحق الحرفُ أن يَقَعَ في هواه سنان هو مُبْدِعُ الحرفِ الوالِهُ الظمآن الـ:
«مُعَلَّق في فضاء التمني» (سنان المسلماني، نص «عيدان»)؟!
لَعَلَّ مَقْطعا كهذا يُغْريكَ بما يكفي لِتَشدّ بحرارة على يَدِ ما شابَهَه في الصورة، كيف لا وأول شيء يجتذبكَ اجتذابا إليه هو بلاغة التشكيل الفني من خلال بناء الصورة الشعرية.
سنان كائن مُحِبّ يستحقُّ أن يُحَبَّ، ولذلك تَجِدُ له من الأحبة مَنْ يَخْدُمُه بعينيه، ويأذن لكتابِه أن يَطير إليّ..
شاعر محبوب يتسابَقُ الْمُقَرَّبُ مِن قلوبِهم قلبُه إلى فَتْح الباب لِمَنْ يُريدُ الجلوسَ بين يديه تحت مظلَّةِ مُزْنِه مستعيرا عينيه ليرى بهما ما يراه صاحبُهما في مرآةِ روحِه.
كانت لي قصة لم تنتَهِ إلا مؤخرا مع مجموعة سنان بعد أن شَدَّتْني إليه نصوص له وجدْتُها في أماكن مختلفة تقول فيها إن «قطر» أَنْجَبَتْ شاعرا رقيقا تتمايلُ أرضُ الحَرْف إعجابا بخطوته الشعرية، غير أني انشغلتُ عنه بالمواد التي جُلْتُ فيها لزملاء من «الوطن»، لاسيما وأن إدمانَ قراءةِ أعمدتِهم رَسَمَ لي حُدودَ تجربةِ الكتابةِ عندهم وأنا أتعايش مع مادة الكتابة لوقتٍ طويل قبل أن أكتُبَ أو لا أكتب، وآخرهم دويع العجمي الذي أُحْسِنُ الإنصاتَ إلى بَوْحِ حَرفِه.
شاعرُنا سنان الذي قضيتُ أشهرا بحثا عمَّا يُغنِي من جوعِ أصابعي إلى معانَقَة حروفه وجدْتُ أخيرا صاحبَ قلمٍ يحمل بين أصابعه الدافئة كتابَ الشاعر، يَلفُّه بعناية، ويُرْسِلُه إلى عنواني الشخصي النائي على الشريط الجغرافي ليكون في ظرف ثلاثة أيامٍ بين يديَّ، فأروي عينيَّ من عَذْبِ الحروف التي فيها يَطيبُ لِروحٍ أن تَقولَ لِروحٍ: «ما أرَقّكِ! ما أَرْقاكِ!».
من هذا المنبر تحية للطائرين الغِرِّيدَين، والسلام للغابة، غابة الحَرْف.
سنان إنسان، إنسان حَسَّاس، تَكاد أنتَ من رهافة أوراقه الندية تخشى أن تَجْرَحَه كما تجرح وردة. مفرداتُه موغلة في الرِّقَّة، صُوَرُه الشعرية مُحْكَمَةُ التركيب آسرة بخيالها، شِعرُه لَيِّن (والنموذج المجموعة الشعرية مَحَطّ التأمُّل)، يكاد من لُيونتِه يخترق مسامك، يفوز بإعجابك ويحظى برضاك..
ما أن تُلامس حَرْفَه حتى تحترق، تحترق بنار الإحساس العالي الذي يُضيء لك كشمعة، شمعة تذوب بين يديك وتسكب هي الكثيرَ من الدموع الحَرَّى لِتَحْصلَ أنتَ على حِصَّتِك من الضوء، والضوء ليس سوى لذة النص.
جميل أن يَكتبَ شاعر مثله، لا ليستعرض عضلاته الأدبية، إنما لِيُبَلِّلَكَ بإحساسه.. جميل أن يَشْعُرَ سنان ويجعلكَ تَشْعر بما يَشْعُرُ به حدّ أن تستلذّ إحساسَك، كأنك تتلذذ بتعذيبه لنفسه (سنان) هو القائل من باب استشراف المستقبل:
«أنعيمٌ أخطو إليه
أم جحيمٌ يسعى إليّ» (سنان المسلماني، نص «عيدان»).
تأملْ عزيزي هذا السؤال الذي يمثل عنوانا لوجودك على ظهر سفينةِ الغدِ ومفتاحا لباب الأيام التي تتأهب للولوج منها إلى حيث لا تدري ماذا في انتظارك: أجنة تليق باختيارك أم جحيم تدفع فيه ثمنَ قرارك أو فِرارِك، فِرارك من الباب الضيق؟!
هذا عن أوائل النصوص التي دَعَتْنِي إلى البحث أكثر فأكثر في ريبرتوار سنان المسلماني، قبل أن تتوارى الحروف معلنةً قُدومَ «مُزن» بجلالة حَرفِه.
مَنْ يملك هذا الحِسَّ المرهَفَ الشفيفَ تخشى أنتَ أن تجرحَه بكلمة، لا بل بِظَنٍّ في غير محله، لذلك تَحْمِلُ نصوصَه بين كَفَّيْ عينيك وقلبِك كما تَحْمِلُ عصفورا صغيرا رقيقا تخشى أن يَسْقُطَ من يديك إن سَقَطَ المعنى وجَانَبَ الصوابَ، وبالمثل تخشى أن يَطيرَ عصفورُك دون إشعار في حالة ما إذا المعنى الصحيح طار.
نَعْرِفُ الشخصَ من روحه، نتعوَّد على حضوره بقدر ما تَسْكننا عذوبةُ روحه ورِقَّتُها، نُدْمِنُ معانقَةَ أنفاس روحِه بقدر الإحساس بروحه، ونَحْكُمُ على الشخص، أيّ شخص، بترجيح كَفَّةِ جَمال روحه. سنان من هذه الطينة.
ربما لم يَحْصلْ لك شَرَفُ لقائِه كما لم يحصل لي، ربما لم يصلْ إليك صوتُه كما لم يَصِلْ إليّ، ولا رسمْتَ ملامح لشكله، لكن تَأَكَّدْ وأنتَ تَسْهَرُ مع حُروفه في شُرْفَتِكَ البعيدة أنك تراه بما يكفي كما ترى قمرا مضيئا، تراه بعين الإحساس لا بعينيك.. وعندما يبلغُ شاعرٌ مبلغَ إحساسِ القارئ بحَرْفِه، صَدِّقوني، سيكون قد نجح في جَنْي عِنَبِ الكتابة.
قبل أن نسافر على ظهر الغيمة «مزن»، أسمح لنفسي أن أُسْقِطَ الألقابَ كما العادة لأقترب أكثر من صاحب النص حتى أفهم النَّصَّ وأَرُشّكم رشَّات من عِطر تجربة القراءة العاشقة. لكن رجاءً قبل كل شيء رافقوني لنلقي نظرةً من أعلى صُروح الذات على بحر الروح الذي يهيم فيه سنان، سنان الشاعر الذي يُجَسِّدُ على مَدار مُزْنِه أكثر من ذات:
«كم غيمة عليَّ أن أُحْصِي
كم عشبة عليَّ أن أوقظ
كم لحظة عليَّ أن أُسايِر
كي تلتفتي إلى الذي سقط من حقيبةِ قلبِك» (سنان المسلماني، مُزن).
لاحِظوا معي ثراءَ النواة الفكرية التي شَكَّلَها سنان بريشة رسام يَشعُر. أول شيء نُسَجِّلُه هو أن النصَّ المضغوط يتراءى لنا في صورة مونولوغ (حِوار أحادي) مع مُخاطَبة غير مُصَرَّح بها إلا إيحاءً. على أنك تَفْهَمُ مباشرةً أن مَقْطعَه الشعري اختزن رؤيةً سرديةً تُوجِز لنا حقيقةَ ما كان.
وإلينا البرهان: فهناك شخصيتان: السَّارِد (الشاعر)، والْمُخاطَبة الأنثى (X). لكن ما دليلنا على أنها أنثى؟! إنه تصريف الفعل (التفت) مع ياء المخاطَبة في الزمن الحاضر، تَلِيه مباشَرةً كافُ الخِطاب المجرورة، كيف لا تكون مجرورة وقد جَرَّتْ معها قلبَ السارد/ الشاعر (قلبكِ).
أما الحدث الرئيسي، فَلْنُسَمِّه: الرحيل مع سبق الإصرار، لماذا؟! لأن حقيبةَ القلب أَضْرِبُ بها مَثَلِي الخاص في الأمانة والأمان، بالتالي صَدِّقْ عزيزي أن ما مِن شيء يَسْقُطُ من قلبِكَ بغير إرادتك، وما من شخصٍ تَسْقُطُ أنتَ من قلبِه بغير حِرصِه على أن يُفْرِغَ روحَهُ منكَ إذا كنتَ قد وَصَلْتَ أصلا إلى مقام أن تمتلئ بكَ روحُه على سبيل الحقيقة لا على سبيل الوَهْم.
الزمنُ هو زمن العَدّ العكسي مادام سنان في زمن الشعر (مجموعة مُزن المنشورة عام 2003) يَضْبِطُ عقاربَ أيامِه على ساعة الذاكرة التي يَنْبش فيها لِيَحْفرَ حفرةً تَليقُ باتخاذها أريكة تَكْفي لاختلاء روحِه الكسيرة مع العابِرة التي حَمَلَتْ أَمْتِعَتَها ورَحَلَتْ في قطار الزمن بعيدا بعيدا أَبْعَد مِن عيني الشاعر.
فماذا عن المكان؟! إنه المسافة الفاصلة بين قلبِه وقلبِكَ قبل أن يَسْقُطَ (قلبك) من حقيبة قلبِه.
يا لَبَذَخ الرسالة الشعرية التي يَزفّها إلينا (بحبر الأسى) أوَّلُ مقطع شعري رأيتُ من العدل أن أَسْتَهِلَّ به عُبورَنا لنهرِ روح سنان الشاعر على جِسر مُزن، ربما لأنه مقطع يُصيبُك بالرصاصة نفسها التي تَضْرِبك بها نافذتا رُوح (عينان) تستحقان أن تَكون أسيرَهما، أسيرَهما المذبوح بخنجر الرحيل.
ما هذه إلا وُرَيْقَة أو ثمرة من الشجرة العظيمة، شجرة البَوْح التي غَرسَتْها كفّا سنان في تُربةِ روحِه التي هَيَّأَت الظروفَ الصحية لِتَيْنَعَ النبتةُ قبل أن تَغدو شجرةً سامقة تَضْرب بجذورها في الأرض. فما تكون هذه الظروف؟! ليست سوى المعاني الشفيفة التي ضَمَّنَها سنان رؤاه بين ضِفَّتَيْ الشِّعر والحياة. قبل أن تَقْذفَ بنا موجةُ نَصٍّ شعري إلى أخرى كانت لي وَقْفة عند عنوان كتاب سنان: «مُزن». «مُزْن» عنوان، والعنوان عَتَبَة. ما معنى هذا؟! معناه أن العنوانَ بالنسبة للكتاب بمثابة العتبة للبيت. صحيح أن العتبة لا ينعكس فيها البيت انعكاسا مِرْآويا، لكنها تقول الكثيرَ. عَتَبَةُ مجموعة سنان الشعرية جاءت عبارة عن كلمة واحدة نَكِرَة. لكن ألا تقول شيئا هذه النكرةُ؟! طبعا تقول، بل إنها تقولُ أكثر مما قد يتصوره قارئ مُتسرِّع لا يُعطي لهذه النكرة (العنوان) حَقَّها من المداعَبة والمصاحَبة لِتَفْتَحَ له نافذةً تَكْشف له من خلالها بعضَ أسرار فِتنَتِها.
«مُزن»..!
فَبماذا أتانا مُزن سنان؟! (لنا عودة بإذن الله).
copy short url   نسخ
10/12/2016
4936