+ A
A -
لم يرسل الله سبحانه رسولًا، أو يبعث نبيًا، إلا ولقي من قومه جدلاً، وصدودًا، ولم يحدثنا القرآن أن نبيًا واحدًا بُعث في الناس وقال: «آمنوا...» فأجابه الناس على الفور! بل إن العكس من هذا هو ما حدث.
فشيخ دعاة الأرض نوح عليه السلام لبث تسعمائة وخمسة وتسعين عامًا يدعو إلى الله، لاقى فيها الصد والعذاب، وما آمن معه إلا قليل، وإبراهيم عليه السلام لم يسلم من آزر حتى يسلم من الناس، وألقي عليه السلام في النار. موسى عليه السلام نعته فرعون بالفاسد الذي يريد تبديل دين الناس. وزكريا عليه السلام نشر بالمنشار، ويحيى عليه السلام قُدّم رأسه مهرًا لبغي من بغايا بني إسرائيل. ولم يكن نزل من القرآن إلا خمس آيات عندما قال ورقة بن نوفل للنبي صلّى الله عليه وسلم: «ليتني أكون جذعًا حين يخرجك قومك» فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم مستغربًا: «أومخرجيّ هم؟» رد ورقة: «ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي! ولقد صدق ورقة بن نوفل، فلقد أوذي وعودي»!
وبعيدًا عن الخلفية الدينية لهذه المواقف الآنفة الذكر، ثمة خلفية اجتماعية مقيتة وراءها هي إلفة الخطأ، حيث يمارس الناس عادات خاطئة، ويتبنون عقائد زائفة تصبح لها مع طول المراس والمعايشة قوة الحقيقة، ويدافع عنها أهلها دفاع أهل الحق عن حقهم بل أشد!
حتى الأنبياء عندما كانوا يغيرون معتقدات أقوامهم، وعاداتهم، ويبينون لهم خطأها، لم يكن ذلك سهلاً وإنما كانوا يستميتون دفاعًا رغم جلاء الحقيقة، وبيان زيف المعتقد، ويعزون هذا الضلال إلى إلفة الخطأ صراحة لا كناية ولا مواربة، وما قولهم «هذا ما وجدنا عليه آباءنا» إلا إقرار بهذه الألفة!
مصيبة إلفة الخطأ أنها لا تفسد الفكر فقط، وإنما تفسد الفطرة، فإن كان ذنب نوح في قومه أنه جادلهم فأكثر جدالهم، وذنب إبراهيم أنه كسر أصنامهم، لم يكن ذنب آل لوط سوى أنهم أناس يتطهرون، فعندما تفسد الفطرة تصبح الفضيلة رذيلة، والرذيلة فضيلة، وإلا كيف يُعيّر آل لوط بالطهارة!
وأرى مصداق ذلك قول جدتي في مثلها: لم يجدوا في الورد عيبًا، فقالوا له: «يا أحمر الخدين»!
ولذا، فعلى الذين ينبرون لتغيير المجتمعات، وتخليصها من شوائب المعتقد والسلوك ألا تغيب عن أذهانهم حقيقة إلفة الخطأ.
يعتقد كثير من الدعاة أن الخطأ في المجتمعات أمر حادث، بينما هو في الحقيقة أمر متجذر، الخطأ في المجتمعات ليس نارًا شبّت فجأة، يكفي المصلح أن يلقي عليها دلاء ماء لتنطفئ ويعود الأمر كما كان!
الأمر أعتى من هذا وذاك... إنه يشبه محاولة فصل الملح عن الماء بعد أن شبع ذوبانًا فيه، نسي الماء عذوبته السابقة، والملح لن يخرج بسهولة! وكل الدعاة الذين وهنوا ويئسوا فانكفؤوا في بيوتهم أو اعتزلوا مجتمعاتهم فعلوا هذا لأنهم حسبوا الخطأ طارئًا، ونارًا شبّت فجأة، لم يعرفوا أنه لحم قد اختلط بعظم!
وفي إلفة الخطأ يروي الأوائل قصة تلخص الأمر كله!
قالوا: يحكى أن حجرًا ثقيلاً وقع على ذيل ثعلب فقطعه، فرآه صديق له وسأله: ما الذي حدث لذيلك؟ فقال: قطعته لأشعر وكأني أطير في الهواء، يا لها متعة!
شعر الصديق بالغيرة، وعمد إلى قطع ذيله! فلما شعر بألم شديد ولم يجد لذة الطيران، قال لصديقه: لم كذبت عليّ؟!
فقال له: خشيت أنت تسخر مني فاخترعت القصة!
فانطلقا في قومهما، وكلما رأيا ثعلبًا حدثاه عن متعة الطيران دون ذيل، حتى قطعت أغلب الثعالب أذيالها، وكان القطيع كلما ولد ثعلبًا قطعوا ذيله، وإذا وجدوا ثعلبًا له ذيل سخروا منه! وهيهات أن تقنع الثعالب بعدها أن الأصل أن يكون لها ذيول!
بقلم: أدهم الشرقاوي
copy short url   نسخ
08/05/2018
3688