+ A
A -
يوما بعد يوم نُثْبِتُ للآخَرين أننا نُرَبِّي الحِكْمَةَ ونَعصر عِنَبَ الصَّبر في انتظار أن يَفقسَ بيضُ الأحلام.. طاحونةُ الدنيا تَدور، وطَحِينُنا يَتَمَرَّدُ حالفا ألاَّ يَسْتَوِيَ.
كُلَّمَا حَملتُ فنجانَ قهوتي إلى سلالم البيت الأمامية أَتَّكِئُ على سِياج الشُّرْفَة الأولى وأَرْنُو إلى القَمَر، أَرَاني أُنَاجِيه مُناجاةً صامتةً، يَسْتَدْرِجُنِي إليه صُعودا، فَأُجِيبُه بحِكْمَةٍ تَفْضَحُها العينان: «إِنْ كُنْتَ تَحسبُ نَفْسَكَ القَمَرَ اِنْزِلْ إلَيَّ».
في كُلِّ مَرَّةٍ أُناجي القمرَ أَخْتَلِسُ بَعْضَ الضوء، لكنني لا أَسْتَبْعِدُ إمكانيةَ سُقوطِه، كما لا أَسْتَبْعِدُ رحيلَ البحر بالْمِثْل.. أُقْنِعُ نَفْسي بأن الكواكبَ آيِلَةٌ للسُّقوط تباعاً، ومِنْ ثمة أَتَسَاءَلُ: هل يُمْكِنُ أَنْ نَتَصَوَّرَ أنَّ الكُرَةَ الأرضيةَ هي الأُخرى قد تَفْقِدُ توازُنَها وتَسْقُط؟!
كُلُّ ما تَلْتَقِطُهُ عَيناكَ يُؤَكِّدُ حقيقةَ أن دَوامَ الحال مِنَ الْمُحال على امتداد استدارةِ الكُرَة: بِرَك الدِّماء، حُروب الماء، غَضَب السماء، الأُخُوَّةُ تُحْتَضَر، الدموعُ مَطَر، الفِتْنَةُ تَسُود، البَشَرُ أُسُود، القُلوبُ حِجارة، شُعوب دَمُها طَيَّار، شُعوب تُصارِعُ النارَ والاختيار، شُعوب تَشْكُو غَلاءَ الأَسْعار وسُعَارَ التُّجَّار وحَرْبَ الزِّيادة تِلْكَ التي تَحْكُمُ على الشُّعُوب بِالإِبَادَة.
الكُرَة الأرضية تَتَحَوَّلُ إلى الكُرْبَة الأرضية، عالَمُنا الحَيُّ أضحى مَقْبَرَة، قَميصُ الدِّين باتَ قَنْطَرَة، العَسَلُ تَغِيبُ عنه الحَلاوة، الوَرْدُ يَغِيبُ عنه العِطْرُ، القُلُوبُ يَهجُرُها الإيمانُ، والضَّمِيرُ يَرْقُصُ في جنازتِهِ الشيطانُ.
مَنْ مِنَّا الملائكة؟! مَنْ مِنَّا الشياطين؟! مَنْ وَأَدَ الْمُروءَةَ؟! مَنْ أَلْبَسَ الباطِلَ عمامةَ الحَقّ؟! مَنْ صَفَّقَ للخِيانة؟! مَن اقْتَلَعَ سَنابِلَ الحُبّ؟! مَنْ غرس بُذورَ الحِقد؟! مَنْ أَنْصَفَ مَنْ حَفر لَكَ حُفْرَة؟! مَنْ بَايَعَ مَنْ زَيَّنَ لَكَ عَمَلَ الشَّيطان؟! مَنْ سَمَّرَ لِسانَ الصِّدْقِ بِمِسْمار؟! مَنْ صلبَ أَيْدِي البَراءةِ وأَرْجُلَها؟! مَنْ قَصَّ ضَفَائِرَ الحِكْمَة؟! مَنْ كَسَّرَ مِرْآةَ الْمَحَبَّة؟! مَنْ رَوَّجَ لِلْقَسْوَة؟! مَنْ حَارَبَ النَّزَاهَةَ؟! مَنْ لَقَّنَ دُروسا في التربية على الخَوْف؟!
تَغِيبُ الشُّموسُ ولا تَغِيبُ الحُرِّية، تَظَلُّ أنتَ الحُرَّ بْنَ الحُرَّة، تَسترقُ الْخُطَى إلى الحياةِ باحثا عن حَقِّكَ فيها، تَمْضِي مُؤْمِناً بِأَنَّ الرِّزْقَ على الله وبِأَنَّ ما مِنْ شيء هو كائن إلاَّ بِأَمر الله، تَضَعُ فوق رأسِكَ حُزْمَةَ أَحْلامِكَ الصغيرة وتَمْضِي بعد أن تَجْمَعَ مَتاعَ الدنيا وتُلْقي به في حاوية أزبالٍ بِحَجْمِ التاريخ.
إنه التاريخُ الذي تُقاطِعُ أنتَ أَرْقامَه، ولا تَعْتَرِفُ إلاَّ بِشُموخِ رِجَالِه.. فَكَيْفَ السبيل إلى ما تَيَسَّرَ مِنْ رِجال، إن كان مازال هُناك رجال، في وسعهم أن يَكْتُبُوا التاريخَ؟!
لا مَجد للأرقام.. الْمَجد للرجال!
لَكِن السؤال: أَهِيَ الْكُرْبَة الأرضية آيِلَةٌ للسُّقوط، أم تراها الكُرَة الأرضية الآيِلَة؟!
نافِذَةُ الرُّوح:
«كَمْ قُلْتُ للشمس أَنْ تَخْجلَ مِنْ ضوءِ الحُبّ!».
«عَيناكَ سفينتان تُبْحِرانِ في اتجاه جَزيرتَيْ العقل والقلب».
«حالِمٌ غيمُكَ بالْمَطَر الذي يُعيدُنِي إلى سيرتي الأولى، فَمَتَى يَطيبُ لي الانعتاقُ مِنْ مَاردٍ يُنَافِسُكَ في جَنَّتِي؟!».
«مَغارَةٌ ثمينةٌ بِحَجْمِ القلب تُغْلِقُ أَبوابَها في انتظارِ ضَرْبَتِكَ».
«سُكَّر يا سُكَّر، في أَيّ فنجان حُبٍّ سَتَذُوبُ؟! وبِأيِّ ملعقةِ قلبٍ سأُحَرِّكُكَ؟!».
«الليلُ قِدِّيسٌ كبير يَصغر أمام ظُلمةِ قَلْبٍ هَجَرَتْهُ طُيورُ الحُبّ».
«حَكِيمُ زَمانِهِ ذَاكَ الصمتُ الذي أَشْبَعُوه عَصا وصَلَبوه على نافذةِ الوُعودِ الكاذبَةِ قَبْلَ أَنْ يَخسرَ قَضيتَهُ في محكمةِ الزمن».
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
31/05/2018
2930