+ A
A -

(1)
القرنقعوه من العادات الجميلة التي يحتفل بها شعب الخليج، فهي من الفلكلور الشعبي الذي اعتدنا عليه منذ الصغر، والذي كان يشكِّل مظهرًا عفويا جميلًا من مظاهر التكافل الاجتماعي الجميلة، إلا أنَّ اليوم نرى أنَّ هذا الفلكلور أصبح يومًا يمارس فيه الجميع استعراضهم المتكلف جدًا للتوزيعات والملابس والاحتفالات الاجتماعية والمؤسسية التي لم تعد تركز على الطفل وإدخال السرور في قلبه، بل أصبحت (صرعة) ويومًا لعرض الكماليات والبهرجات الخداعة التافهة!
(2)
لقد لاحظنا جميعًا أعدادًا مهولَة من المضامين الفنية التي أنتجتها دول الحصار عبر أسطول فنانيها في مجالات الغناء والتمثيل والكاريكاتير، وأعتقد أنَّهُ أصبح واضحًا للعيان كيف تمّ إقحام السياسة بالفن والتهريج بعدد من الأمور التي لا يصُح التهريج، ومما لا شكّ فيه أنَّ المادة الفنية «القصة / الأقصوصة» المقدمة عليها أن تتأثر بالنظام الاجتماعي والسياسي أيما تأثير، لكن لا يجوز أن يتأثر الفن بالسياسة ولا السياسة بالفن لأنَّ أي تأثُّر من هذا القبيل يُضعِف دور الطرف الآخر إلى حدِ كبير، فالمادّة الفنية التي تظهر للشاشة والمسرح بمختلف أشكالها لا تقوم إلا بدور مناقشة القضايا الوجودية في المجتمع كالخير والشر والجمال والقُبح والموت والحياة، بينما دور السياسة ينضوي على فَضّ الإشكاليات والتحديات ووضع حلول لها، وأجد أنَّهُ من العيب أن تستخدم دول الحصار أسطولها الفني لتحقيق مساعيها التخريبية، فإقحام المنظومة الفنيَّة في قضايا السياسة هو انعكاس جديد للامعقول الخليجي/ العربي الذي نشهده هذه الأيام. من العيب أن تتكئ الحكومات على الفنّ، فسيل الأغاني السياسية التهريجية التي أعدت وغُنَّت مؤخرًا والبرامج والمضامين الدرامية التي قٌدّمَت ليست إلا دليلًا جديدًا على إفلاس دول الحصار من كُل كروتها الشيطانية المستخدمة بهدف التحريض على قطر حكومة وشعبًا.
(3)
الصيام دورة إيمانية مكثفة مدتها 30 يوما تتواتر كل عام لتغسل النفس الإنسانية والجسد البيولوجي من كثير من الشوائب، وأعتقد أن الصيام عمل فهو تكنيكيا توقف مؤقت لجميع الشهوات تعبدا لله عز وجل، بالإضافة إلى أننا في هذا الشهر نمارس رياضات إيمانية متنوعة كالذكر وقراءة القرآن والصدقة وغيرها من أبواب الخير العريضة التي يزيد فيها أجر المحتسب بإذن الله تعالى في رمضان عن غيره من شهور السنة، كما أننا لا ننكر أن اقتطاعنا من ساعات العمل طيلة نهار رمضان العطش هي كذلك نوعا من الطاعة التي نحتسب أجرها عند الله تعالى، وبكل صدق كثير من المشاهدات المؤسفة في حياتنا خاصة مع دخول رمضان في فصل الصيف نجد أن البعض يلتزم المنزل ولا يفارق النوم والكسل والخمول ويحيد إلى أخذ إجازته السنوية في هذا الشهر المبارك حتى يرتاح من وطأة الحرارة والعطش والتعب الذي يتزامن مع الصيام، مؤجلا كل نشاطاته البدنية إلى فترة ما بعد الإفطار التي هي بحد ذاتها فترة توصف بكافة مظاهر الخمول، وعليه يفقد النهار بطوله ويفقد أغلب الليل في خموله حتى يستفيق من صدمة الإفطار النهمة!
(4)
إنَّ الثقافة هي عنوانُ الوجودِ المجتمعي وهي ثمرةُ التفاعُل الروحي والمادِّي لأبناء المجتمع، واليوم نحنُ نتنَعم في قطر بفوران وطني رائع يمكنهُ بكل سهولة ويُسر أن يؤدي بنا إلى تحقيق أحلامنا وآمالنا العظيمة، فهذه الحقبة من تاريخ الوطن تعتبر من أكثر الحِقَب أهميّة والعمل المطلوب فيها كثير، والأمر بحاجة ماسَّة إلى الممارسة الجادَّة في إطار الرؤية الوطنيَّة المرسومَة مستجيبين لمُعطيات هذه المرحلة الفارِقَة ومُشكلِين لأرضية خِصبة ننطلق منها على طريق الحضارة البشريَّة المُعاصرة، مُشاركِين في صناعة قطَر الغد، بروحٍ إيمانيَّةٍ عالية تسمو عن التبعيَّة والجاهليَّة والاستعمار وتُحَلِّق في سماء الأمَّة الإسلاميَّة والعالمَ العريض بكُل إنتاجٍ وخيرٍ وسلام.
(5)
قضايا الهَم الوطني كثيرة ومتشعِبة، والكاتب والمُبدع الحقيقي يُعَبِّر في النِهايَة عن ضمير المجتمع، ورُغم أنَّ الكثير من الأقلام ترفُض إقحام نفسها في السياسَة، إلّا أنَّ السياسة أحيانًا كقضيَّة وطنيَّة، تفرض نفسها بنفسِها على أصحاب الضمائر والأقلام، فالكِتابَة السِياسيَّة الجادّة هِيَ اهتمامٌ بِبِناء الفضاء العُمومِي الذي يُعتَبَر شرطًا من شُروطِ جَدوى الكِتابَة، وتجيءُ الكِتابَة السِياسيَّة في وسائِل الإعلام الكلاسيكِيَّة والجَديدَة حامِلةً موقِف الشَعبِ من الحاكِم وموقِف الحاكِم من الشَعب، وتُصبِح هذه الكِتابَة في زماننا (الأقلام الجادّة) مؤهلَةً لكِتابَة التاريخِ الراهِن بما يتمتّعُ بِهِ أقلامُ الكُتّاب الأحرار من ثقافةٍ واسِعَة ووعي ونُضج وحِرَفيَّة وخروج تامٍّ من منطِق الدِعايّة المُغرِضَة، فالكاتِب متى توافرَت عندَهُ قيمَةُ المصداقيَّة وحق الحُريَّة فإنَّهُ بإمكانِهِ أن يكتُبَ التاريخ بكُل إبهارٍ وجَلاء، ولِي في ذلك تجربة قريبة، وهو كتاب «الخُروج للداخِل» الذي يُعتبَر تمَثُّلًا ذاتيًا للكِتابَة الوطَنيَة التي أسرَت العقل والوجدان، واستدعَت السياسَة من حيثُ أعلَم ولا أعلَم، تلكَ الكِتابَة السياسيَّة التي أصبحت في عالَمِ اليَوم جنسًا مطلوبًا ومقروءًا لارتباطِها الوثيق بالآنِي؛ فالواقِع الآنِي يؤكِّد لنا بعدَ كُل هذهِ الظروف أنَّ الأبواب والمنافِذ المُختلِفَة لا تُقَرِر عنّا؛ ندخُل مِنها أو أن نخرُج منها، لندخُلَ مِنها بشكلٍ آخر، فإنَّ تداعِيات الحِصار جعلتنا نلتفِت إلى ذواتِنا أكثر فهذهِ المحنَة مُحاطَة بِمنَحٍ عظيمة استشعرَتها كُلُّ الأنفُسِ المؤمِنَة على هذِهِ الأرضِ الطَيِبَة، وأصبحنا اليوم نرفَع شِعاراتِ بناءٍ سامية لسانُ حالِها «لا يُوجَد خارِجٌ، كُلُّ شَيءٍ في الداخِل».
(6)
إنَّ الحداثة التي هيمنَت على كُلِّ شيء وغيرَت من مجرى الأحداث كثيرًا مُضفية عليها نكهة العَصرَنَة؛ أبَت أن تُحاصِرَ شهر رمضان، هذا الموسِم الديني الثقافي الخاص الذي مازال محافظًا على خصوصيته وهُويته المميزة، رُغم كثيرٍ من المظاهر التي تسلَلَت شيئًا فشيئًا فضيعت جزءًا يسيرًا من تلك النكهة الأصيلة، ورُغم هذا الزحف البطيء لمظاهرِ الحياة الاستهلاكية الجديدة، إلا أنَّ رمضان يبقى حكاية ينتظرها أهل قطر لتروي لنا عن عبَق الزمن الماضي، وما زَخَرَ فيه من قيمٍ نبيلة عَتّقها التاريخ؛ لتظَل صامدة أمام رياح التعرية والترسيب.
(7)
اللهم اعتقنا من عبوديَّة الفِكر.

بقلم : خولة مرتضوي
copy short url   نسخ
01/06/2018
2605