+ A
A -
اعتقد الكثيرون أن الإرهاب الذي ضرب إندونيسيا بــُعيد سقوط الديكتاتور سوهارتو قد انتهى إلى غير رجعة. وكان هذا الاعتقاد مبنياً على تراجع الإرهاب بصورة مشهودة خلال عهد الرئيس السابق «يودويونو» قياساً بما حدث في عهود أسلافه. فالأخير لئن وضع بلاده على سكة الديمقراطية بقوة وحقق لها بعض النمو الاقتصادي، فإنه من جهة أخرى ضرب خلايا الإرهاب بصرامة وتصدى لانتشارها بعزيمة حديدية. لكن خروج الرجل من السلطة، تطبيقا لتعديلات عام 2008 الدستورية القاضية بمنع أي رئيس منتخب لتولي المنصب أكثر من فترتين رئاسيتين متتاليتين مدة كل واحدة خمس سنوات، إضافة إلى انتخاب الرئيس مباشرة من قبل الشعب، أربك المشهد السياسي، فيما ابتهجت بقايا التنظيمات الإسلاموية المتشددة بالحدث على أمل أن تتاح لها فرص أكبر للتحرك في ظل الرئيس القادم.
صحيح أن حقبة ما بعد يودويونو شهدت انتخاب رئيس مدني جديد (جوكو ويدودو) بسلاسة، لكن الصحيح أيضا هو أن الحزب الذي ترشح عنه «ويدودو»(الحزب الديمقراطي الإندونيسي من أجل النضال)، لم يحصل سوى أقل من 20 % من مقاعد البرلمان، الأمر الذي فرض عليه الدخول في مساومات مع الأحزاب السياسية الأخرى لإدارة البلاد.
دلت التجارب في مثل هذه الحالات على أن الرئيس يبقى مكتوف اليدين. بمعنى أنه لن يستطيع اتخاذ قرارات حاسمة إلا بعد العودة إلى شركائه، ويزداد الأمر سوءا حينما تكون أجندات الشركاء متضاربة أو يعملون لمصالحهم الحزبية الضيقة ومغازلة أنصارهم في الشارع، بدلا من العمل لمصالح البلاد العليا.
تجلى هذا بوضوح في 2017، حينما كانت علمانية البلاد وتسامحها على المحك، فعجزت الحكومة عن حمايتها. والإشارة هنا إلى عملية انتخاب حاكم جديد لجاكرتا. ففي تلك الانتخابات جندت التنظيمات الإسلاموية المتطرفة كل إمكانياتها، تحت سمع وبصر الدولة، للحيلولة دون إعادة انتخاب حاكم جاكرتا المسيحي «باسوكي تاهاجا بورناما». بل قام هؤلاء الغلاة برفع دعاوي قضائية ضد الرجل أمام المحاكم، زاعمين أنه أهان القرآن والإسلام.
وقتها دعا مراقبون كثر جاكرتا إلى ضرورة التنبه لحجم وتأثير وإمكانيات تلك القوى المتشددة التي ظهرت في الميادين علنا للضغط باتجاه تحقيق ما تريد بالإرهاب، وضرورة عدم تركها لتنمو وتتحول إلى دويلة داخل الدولة. لكن جاكرتا لم تتحرك بسبب «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» وغيرها من الشعارات المفترض رفضها حينما يكون أمن الوطن مهدداً.
وهكذا راحت ظاهرة التشدد تعود وتستفحل في شكل تجمعات ميدانية يحضرها الغلاة ويخطب فيها شباب عائدون من الجهاد في أفغانستان وجنوب الفلبين وغيرهما مثل المتطرف المدعو «محمد الكثاث» الذي عمل طويلا مع «حزب التحرير الإسلامي»، قبل أن ينشق عنه ويؤسس تنظيم «منتدى علماء الإسلام» الأكثر غلواً.
والحقيقة أن التنظيمات الإندونيسية التي يقودها أمثال «الكثاث» لا تستغل مناخ الديمقراطية وحرية العمل لتغيير هوية الدولة الإندونيسية فقط، وإنما تسعى أيضا لدس أنفها في شؤون دول أخرى من خلال التجنيد والتدريب والتسليح وجمع الاموال تحت يافطة «الجهاد لنصرة الإخوة المظلومين والمضطهدين». وقد اشتكت أجهزة الأمن الإندونيسية مراراً من أن القانون لا يقف في صفها للتضييق على هؤلاء وكبح جماحهم. وتكررت مثل هذه الشكاوي مؤخراً في أعقاب اعتداءات مايو الانتحارية ضد الكنائس ومراكز الشرطة، خصوصاً وأنها تميزت هذه المرة بتنفيذها من قبل أسر كاملة متشددة (مع أطفالها الصغار).
ولعل هذا هو السبب في مسارعة البرلمان إلى إقرار تشريع يعطي الشرطة صلاحيات لاتخاذ إجراءات احترازية ضد المشتبه بهم بالإرهاب، ومقاضاة كل من قاتل إلى جانب التنظيمات الجهادية الأجنبية وكل من يجند شخصا للقتال خارج البلاد. كما أن القانون الجديد، يمنح القضاة حق إصدار أحكام أطول بالسجن.
بقلم : د. عبدالله المدني
copy short url   نسخ
03/06/2018
2003