+ A
A -
«آخرك معايا، طلقتين من طبنجة قديمة».. عبارة تهديد ووعيد من والدي- رحمه الله- كانت ترعبني صغيرة ثم تمردت عليها بمراهقتي وتواءمت معها بشبابي وكم أشتاق إليها الآن وأنا أم.
رحل الوالد وبقي معي «ثقيفة الطبنجة» أضعها على مكتبي بعد أن كان والدي يضع الطبنجة تحت وسادته، فترتعد مربيتي حال تنظيفها الغرفة على علمها بمكانها.
وأذكر إبان كنت بالمرحلة الثانوية، أنه حدث واصطحبني فيه والداي لزيارة جارنا المريض الذي قد أودع العناية المركزة، ودخلنا لعيادته، فوجدناه وحيداً بحالة مزرية. فخرج الوالد من الغرفة غضباناً أسفاً، فاعتقدت أمي أن غضب زوجها مرده لكون أحد لم يستقبلنا، فطمأنته أنها دونت اسمه على باقة الورد، فازداد ثورة وأفهمها أنه لم يفكر لا في زهور ولا كان يبتغي أن يراه أحد، لكنه تألم حين وجد الرجل وحيداً في مرضه، فجادلته والدتي بدعوى أن وجود أسرته لا طائل منه كونه لن يشعر بهم، فاشتاط والدي وأخبرها أنه كان حرياً بهم الجلوس على باب غرفته، لأن المفترض أن يشعروا هم به وإن لم يشعر هو بهم.
أدركت في ذاك الوقت أن التصرف الصائب حال حدوث مكروه لوالديَّ هو مرافقتهما شَعُرا بي أم لم يَشعُرا. ثم دخلت الجامعة وحدث أن تأخرت يوماً، فحاول والدي ألا يثور كي لا أركز في الشعور بإهانة العقاب، عوضاً عن الشعور بخطئي، فوجدته بانتظاري أسفل العمارة وهو يرشق يديه في وسطه ويكز على أسنانه يكاد يحطمها من فزعه عليّ، لكنه لم يوبخ ولم يتوعد ولم يعظم الأقسام، فشعرت بندم وذهبت لمصالحته وكنت أتعمد مقابلته مساءً حيث يَقِل الإدرينالين في دمه فيهدأ ويتحول لإنسان وديع.
قلت له: «أتكرهني؟»
أجاب مستلقياً مغمض العينين: «جداً»
فتابعت: «مش بتحبني؟»
:«أنت شيء ما لعنة، ما بحبكيش خالص»
:«إذن، افرض مت غدًا في حادث»
:«في ألف داهية»
:«ما أنت هتروح المشرحة وتخيل لو فتحوا الثلاجة وطلعوا جثتي أمامك!»
:ااااااااعووذ بالله. قالها ووجدت أنه وكما نقول بعاميتنا «اتنطر» من السرير ويكأنه تخيل المنظر، خاصة أنه كان مغمض العينين، ففزع وجلس يكررها «أعوذ بالله» ثم صرخ في: امشي، امشي، ثم ما لبث أن ناداني وغمرني.
تزوجت بعدها بسنوات قليلة واغتربت مع زوجي، ولم يخبرني الأهل بوضع والدي الصحي المتدهور، اللهم إلا واحدة من قريباتي طالبتني بالنزول لمصر من فوري كون الأمر جد خطير.
للأسف كان معروفاً في الأسرة عن هذه السيدة أنها «مهولاتية» فلم أصدقها، لكنها– للأسف- كانت الصادقة الوحيدة.
الشاهد سافرت لوالدي متأخرة، وخرجت من المطار مباشرة للمشفى، فأخبروني أن غرفته هي آخر غرفة على اليسار، ولو لم يفعلوا، لأنكرت الرجل بتلك الغرفة، فقد تغير شكل أبي الذي كان معروفاً بأنه وسيم جداً، فتحول لمسن متهالك.
لزمته في المشفى لليال أربع، ثم رجاني الطبيب أن أجرده من دبلته، فأحضرت بلسماً، وفعلت، لكني لم أفهم، ثم أخبرتني الممرضة بضرورة نقله للعناية الفائقة، لكني– أيضاً- لم أفهم.
سهرت معه حتى الثانية فجراً، فألحت عليّ والدتي أن أصعد للنوم، فرفضت، فازدادت إلحاحاً بدعوى أن نيلي قسطاً من الراحة سيمكنني من التناوب معها. فعَقِلت كلامها وصعدت لأرتاح فيما تسهر هي بجانبه ثم نتناوب، وقبيل أذان الفجر شعرت بهاتف يوقظني، فانتفضت لأجد أمي نائمة بجواري. فهرولت إذ أدركت أن أبي وحيد، وتذكرت أن الصواب هو مرافقته كما أفتى يوم زرنا جارنا المريض وأنا صغيرة بالثانوية.
دخلت العناية وسألت الممرضة: هل حالته تسمح بنقله للسفر بالخارج؟
أجابت: لقد انتقل لجوار ربه.
نزلت معه لغرفة، وفتحوا أمامي الثلاجة وأخرجوا جثة والدي مسجاة أمامي، ففزعت حقاً كما أفزعته مزحاً. صدقاً.. ولو بعد حين.
copy short url   نسخ
09/06/2018
4188