+ A
A -
حُلْوٌ أنْ تُنْصِتَ إلى مَعْزُوفة شِعْرٍ تَنْساب كقصيدةِ ماءٍ هادِرة، والأحلى من ذاك أنْ تُجَرِّبَ الإبحارَ في كتابة الشِّعْر بِأَصابع ماهِرة، أَصابع تُطاوِع اللسان، ومِن ثمة تَرسم لوحةً حَرْفية لا تُضاهيها إلا لَوحة فَنَّان خَبَرَ الألوان.. غير أن النَّفْسَ الإنسانية الْمُوَزَّعَة على الخريطة العربية يَسْتَدْرِجُها الحنين إلى زمن الخيمة والفُرسان الذي كان يُكَرَّمُ فيه الإنسان، وكَيْفَ كان التكريم؟ كان يَتِمّ عَبْرَ بِناء بيت الشِّعر.. في كُلِّ مكان، وإلى الآن، يَجِدُ الشاعِرُ مِنَّا مُتعة ما بَعْدَها مُتْعة وهو يُرَدِّدُ شيئا مِن القصيدة العمودية، إنها القصيدة التي حصدَت النجاحَ في زمن سابق، وحتى اليوم، كيف لا وهي تَشقّ طريقَها إلى القلب بعد أن تَفَنَّنَتْ في عُبور مسرَح الأغنية..
حنين جارف ذاك الذي لا يُنْكِرُه قلب، حنين يَشدُّنا إلى زمن اشتعال القصيدة العمودية قَبْلَ أنْ تُفَكِّرَ هي الأخرى في التخفيف مِن ملابسها والتَّحَرُّر مِنْ عباءتها الفضفاضة، لِتَؤُول إلى ما آلَ إليه شِعْرُنا اليوم في أحدث قوالبه وتجلياته..
وهذا سَفَر شِعري يَأْخُذُنا إلى زمن بشار بن برد لِنَنصبَ خيمتَنا هنالك، أَدْعُوكُمْ بِمَحَبَّة إلى فِنجان شِعْر تَتصاعد منه رائحةٌ بعبق التاريخ العربي:
عَدِمْتُكَ عاجِلاً يا قَلْبُ قَلْبا
أَتَجْعَلُ مَنْ هَوَيْتَ عَلَيْكَ رَبّا
بِأَيِّ مَشُورَةٍ وَبِأَيِّ رَأْيٍ
تُمَلِّكُها وَلا تَسْقِيكَ عَذْبا..
أَمِنْ رَيْحانَةٍ حَسُنَتْ وَطَابَتْ
تَبِيتُ مُرَوَّعاً وَتَظَلُّ صَبّا..
كَأَنَّكَ لا تَرَى حَسَناً سِوَاها
وَلا تَلْقَى لَها فِي الناسِ ضَرْبا..
وتُمْسِي والْمَساءُ عليكَ مُرٌّ
يُقَلِّبُكَ الْهَوَى جَنْباً فَجَنْبا..
[بشار بن برد].
مَنْ يُصَدِّق أنَّ الشاعِرَ يَرى بكل هذه القوة والدِّقَّة التي لا تَفوتُ عاشقا يَرى أَبْعَدَ مما يَراهُ الآخَرون؟!
مَن يُنكِر على الشاعر بَلاغَةَ الرؤية هو الذي يُصَيِّرُ شمسَ قلبِه معبودَةً تَستحِقُّ التَّسَلُّلَ بالْعَيْن إلى كل ما قَدْ يَكفُر به مِنها ضعيفُ البَصَر والقلب؟!
شاعِرٌ أعمى هو بَشار الذي رأى ما لا يَراه مُبْصِر في مدينة الشِّعر النائمة على كَفٍّ ممتدَّة بين زمنين: زمن الأمويين وزمن العباسيين، شاعرٌ ذاك الذي تَعَطَّلَتْ عنده لُغَةُ العيون، لكنَّ قَلْبَه أَهْدَاهُ عَيْنا ثالثة لا يُكَذِّبُ نُبوءتَها الْمُبْصِرون.
الغريبُ أكثر عند بشار هو أنه يُصيبُكَ بصدمة عندما يَدعوكَ إلى رحلة وَصْفٍ على صهوة جواد قصيدته العمودية التي لا يُخطئها الذوق، فإذا بكَ في كل مرة تُشَكِّكُ في سلامة بَصركَ أنتَ، أنتَ الذي تقرأ له كل هذه التفاصيل البديعة التي يُصيبُها سَهمُ مُبْصِرٍ:
خليفة الشمس تَكفي الحيَّ غيبتها
كأنما صاغها الخلاَّقُ مِن نورِ
تَمَّتْ قواماً وعَمَّتْ في مجاسدها
كأنها مِن جواري الْجَنَّة الحُورِ»
[بشار بن برد].
عَمَى بشار لم يَكُنْ يَحولُ دُون نجاحِه في اختلاس مواسم الرقص والطرب التي تُصَفِّقُ لها العَيْنُ والأُذن، وبالْمِثْل لم يَكُنْ عماه لِيَحُدّ مِنْ تَجاوبه مع الْمَشْهَد تجاوبَ الرائي الذي تُلْهِبُه حاسةُ البصر تلك التي تُحَرِّك أكثر فأكثر ما جاوَرَها مِن حواس تُشْعِل الرغبة ولا تُطفِئُها:
وذات دلٍّ كأن البدر صورتها
باتتْ تغني عميد القلب سكرانا..
فقلتُ: أحسنتِ يا سُؤلي ويا أملي
فأسمِعيني جزاكِ الله إحسانا..
يا قوم أُذني لبعض الحي عاشقة
والأُذن تَعشق قبل العين أحيانا
[بشار بن برد].
مشتعلةً اشتعال النيران كانت رغبةُ بشار في قطف كل عناقيد العِنَب وغيره مِن الثمار المتدَلِّية مِن وراء الجدار الفاصِل بينه وبين دنياه، وأيّ دنيا؟! إنها الدنيا التي يَشربُ الواحدُ مِنهم كأسَها حدّ الثمالة، لكنَّها الثمالة التي لا تُرخي ستائر عيون القلب.
وَلْنَتَصَوَّرْ هُنا ما قَد يَفعلُه بالقلب رُمحٌ أعمى في حِدَّةِ الحُبّ!
حُبُّكَ الشيء يُعميك، هكذا جَرَت العادةُ، لكنَّ سَوْطَ الحُبّ الذي جلدَ شاعرا مِن طراز بَشَّار لم يُعَلِّمْ قلبَه الانهيار أو الاستسلام لوطأةِ حِذاءِ امرأةٍ، لماذا؟! لأنَّ الْحُبّ في زمن بشار دَرَّب الشاعِرَ على أن يُبْصِرَ أكثر فأكثر لِيَقْرَأَ ما بين سطور قصيدةٍ تَكونُها امرأة تُعْشَقُ حَدّ العبادة..
إنها الإبادة! الإبادة حُبّاً!
مع كل ذلك، فقد كانت الْمَشاعر تَتَأَجَّج في قلب الشاعر الثائر لِتُلْهِمَهُ ما لم يُلْهَمْ به في زمنه شاعر، إلى درجة أن يُشَكِّلَ شِعْرُ بشار مُنَوِّماً مغناطيسيا يُخْفي عَمَّن وقعَ في حُبِّهِنَّ، أو بَادَلْنَه الحُبَّ، صورتَه الدميمة التي لا تَحتفظ بها في عَيْنَيْها المرأةُ الحكيمة.
عندما تُحِبُّ المرأةُ حُبّاً يَتَرَفَّعُ عن أيّ مصلحة، فإنها لن تَرى ما يَراه الآخَرون، وكُلّ العيوب الشكلية التي قد تُهينُ رجولةَ الرَّجُل سنَجِدُ المرأةَ الحكيمة بقلبها تُسْقِطُها مِنْ حساباتها، بل أكثر مِن هذا فإنها تُقنِع الرجُلَ بأنه يَستحِقُّ الثقةَ بنفسه بعيدا عن القُبح الذي تَكْفُر به رَبَّةُ الجَمال.
فهل كانَتْ مشكلةُ الشاعر بَشار تَقتصر على مظهره غير المقبول؟!
قُلنا لا طبعا، لأنَّ العَمَى هو أكثر ما يُعَذِّبُ امرأة جميلة، وهَيْهَاتَ لِرَجُلٍ أعمى أن يَركَعَ قبالةَ سِحْرِ جميلة!
أما صاحِبُنا بشار، فقد كان لسانُه تُرْجُمان عينِه الثالثة الخازنة للأسرار، قلبِه، لذلك لم يَحرِمْه هوى العين الماثلة كنَصّ غائب مِن تَعديل مزاج القلب الرَّاغِب:
فقُلتُ دَعوا قلبي بما اختارَ وارْتَضى
فبالقلب لا بِالْعَيْنِ يُبصِرُ ذو اللُّبِّ
وما تُبْصِرُ العينان في مَوْضِع الهوى
ولا تَسمع الأُذنان إلا مِنَ القلب
[بشار بن برد].
هو ذا بشار، فارس مِغوار، رَوَّضَ فرسَ القلب على اجتياز الحواجز في مَنْأى عن عصا العَيْن، فَقُلْ لهُمْ يا عَماه كَيْفَ يَبْلُغُ التحدي مَداه..
لَيْسَ كُلّ فيضان عُنوانا للسقوط، فَحِينَ يَفيض نهرُ الإرادة تَرَقَّبْ مَوْعِدا مع مَوْسِم النجاح.
مَدْرَسَة شِعرية لا يَختلف فيها اثنان كان لِمُؤسسها نهاية بائسة تَنتظره كإنسان، فهِجاؤه للمهدي خليفة بني العباس ووزيره تَسَبَّبَ في غَضْبَة لم يَضَعْ لها حَدّاً سِوَى السَّيف. ماتَ الشاعرُ، لَكِنْ عاشَ بَيْتُه الهِجائي الذي قَتَلَه:
ضاعَتْ خِلافَتُكُمْ يا قَوْمُ فَالْتَمِسُوا
خَليفةَ الله بَيْنَ النَّايِ والْعُودِ
[بشار بن برد].
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
07/07/2018
3538