+ A
A -
لا يختلف اثنان على أن المنطقة العربية تتدهور بسرعة وأنها تنتقل كل عام من سيئ إلى أسوأ. والناس ليست في حاجة إلى إحصاءات للتدليل على ذلك وإنما يكفيها إحساسها وحدسها وبديهتها. ويبدو أن العرب بعد تاريخ طويل مع التدهور لم يعودوا يخشون السقوط. فقد تبين لهم أنه لم يعد من تحتهم تحت كما سخر من أحوالهم الشاعر اللبناني الراحل رشدي المعلوف.
لقد تدهوروا في كل شيء. في أوضاعهم الداخلية وعلاقاتهم البينية ومكانتهم الدولية. تدهوروا علمياً وتكنولوجياً وسياسياً وأمنياً واقتصادياً. والدول حينما تتدهور لا تفشل في قطاع واحد وإنما تسقط غالباً في كل قطاع. ولا تستطيع أي دولة أن تداري تدهورها بالكلمات والدعايات وحملات العلاقات العامة. فالتدهور يُقاس بإحساس الناس الخانق من حقائق مؤلمة لا يمكن تجاهلها.
وثمة عوامل قوية تقف وراء التدهور العربي الكاسح متعدد الأشكال بل وماكينة عمل كاملة تحركها قوى وجماعات لها مصلحة في قمع التغيير وافتعال الأزمات. ماكينة تحرص مثلاً على أن تبقى الشعوب منكسرة وتوزيع الدخل مجحفاً والتبعية للخارج عميقة. ومع أن عمر ماكينة التدهور العربي طويل إلا أنها ليست قدراً أو جبرية حلت بالعرب وإنما محصلة لتراكم تاريخي قادته كل القوى السكونية التي تعادي التغيير وتتصدى له. لقد تسببت تلك القوى بوقوفها المتكرر في وجه التغيير في منع التقدم إلى الأمام. ومن لا يتحرك إلى الأمام لا بد أن يتدهور عندما يسبقه الآخرون.
أما طريقة عمل تلك الماكينة فترتكز على أربع خطوات. الأولى هي الاستحواذ الكامل على عملية اصطفاء النخب. فلابد من تمكين رعاة بعينهم من مقاليد القرار وإبعاد كل قوة اجتماعية إصلاحية عن مواقع المسؤولية. ولو صادف ووصل بعضها فلا بد إما من إزاحتها سريعاً أو التماهي معها لفترة يبدأ من بعدها ترويضهم وضم كل من تضعف غريزته البشرية منهم إلى صفوف القائمين على تدوير ماكينة التدهور. لابد من نخب تتقن الكلام عن أوجاع الشأن العام وليس العمل على معالجتها. نخب تحول بمهارة قضايا الأثرياء والمتنفذين إلى هموم جماهيرية لينشأ وعي زائف بمساعدة آلات إعلام هي في حد ذاتها علامة على حالة التدهور. يلي تلك الخطوة خطوة ثانية تتمثل في تحويل تجاهل المشكلات العامة إلى مسألة طبيعية، يتعين على الناس أن يألفوا العيش معها بدلاً من أن ينزعجوا منها أو يزعجوا رؤوس المسؤولين بإيجاد حلول لها. هذا التعامي وتجاهل الحقائق يمثل قلب المنظومة الفكرية لمشغلي ماكينة التدهور. هو الذي يجعلهم ينكرون القبيح بل ويجملونه. فالهزيمة تسمى نصراً وسرقة المال العام تعتبر إعادة هيكلة والشعوب توصف بمهد الحضارة برغم ما فيها من أمية وهمجية ظاهرة. وليس غريباً في ظل التغافل عن المشكلات أن يتفاقم التدهور وأن يصبح حالة لا مهرب منها.
تأتي بعد ذلك الخطوة الثالثة في عمل ماكينة التدهور عندما يقوم القائمون عليها بشخصنة كل شيء وتحويل مشاعر ورغبات الشخص النافذ والفرد المتحكم إلى مسطرة يقاس عليها كل شيء. فالمشكلات العامة هي ما يقرره والحلول هي ما يراه. وصديق الوطن هو صديق الحاكم وعدو الوطن هو عدو الحاكم. أما الشعوب فعليها أن تقبل بل وأن تحاكي مشاعر ورغبات الشخص المتنفذ. وعن طريق تلك الشخصنة كثيراً ما تسببت ماكينة التدهور في جر الناس إلى مغامرات أرادها فرد واحد أو بضعة أفراد. بسببها زج بالشعوب في خصومات وحروب لا نية ولا رغبة لهم فيها، لتتسع المشكلة وتوجه الموارد إلى أعمال طائشة لا طائل من ورائها بدلاً من أن تصرف كما يتمنى الشعب في تطوير التعليم والصحة والاقتصاد. والأسوأ من كل ذلك عندما تبدأ الخطوة الرابعة من عمل ماكينة التدهور. فبعد أن تقوم بشخصنة السياسة لترضي الحاكم تقوم بتدويل المشكلات لترضي القوى الخارجية. وقد فتحت هذه الخطوة وحدها وماتزال باب المنطقة واسعاً أمام جيوش من المغامرين والمحاربين والمتآمرين الذين تسببوا في تعميق وتسريع وتيرة التدهور.
لقد مارست ماكينة التدهور عملها في المنطقة بإتقان يكاد يكون هو الاتقان الوحيد الذي عرفته. فمن مئات السنين والعرب يتقاتلون ويحتقرون بعضهم ثم يكذبون ويقولون إنهم يتحابون وينهضون. من قرون وهم يدوّلون مشكلاتهم. من قرون وهم يتوسعون في الإنفاق على التعليم والصحة والاقتصاد ومع هذا أبقوا دولهم تعتمد في كل ذلك وفي غيره على المساعدات الخارجية المشروطة. إنها ماكينة عملاقة وقديمة تعرف كيف تجدد نفسها وستعرف كيف تعيش أطول طالما لم يبدأ عصر تنوير يوقفها ويحاسبها ويدمرها.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
09/07/2018
1973