+ A
A -
في العلوم كما في اللباس وكما في الأطعمة هناك عالم للموضة والشيء البراق الذي يسيطر على قطاع كبير من الناس. عالم الموضة هذا يروج له عبر قنوات تؤكد أن هذا الفرع من العلوم هو الأوفر حظاً في الوظائف أو أنه الأكثر فرصة لاحتلال مواقع في المجتمع. بناء على كل هذا نجد أن العلوم الطبيعية كالطب والهندسة وعلوم الحاسوب تحظى بإقبال كبير من الطلبة الراغبين في شق طريقهم في الحياة عبر التخصص في أحد هذه العلوم.
في غمرة هذه- الموضة- تغافلت مجتمعات متعددة عن الاهتمام بالعلوم الاجتماعية والإنسانية بالشكل الذي تستحقه هذه العلوم. ذلك أن خصوصية هذه العلوم وتعلقها بالإنسان دفع بطريقة يصعب فهمها إلى إهمالها عبر وسائل شتى. منها على سبيل المثال تقديمها على أنها علوم سهلة ومن- دخلها فهو آمن. وبأنها علوم فضفاضة قد لا يحتاج التخصص فيها أحياناً، أو أنها لا تأتي بعائد مادي يعين على حياة كريمةً. كل هذا ساهم في خلق تصور سلبي في المجتمعات نحو هذه العلوم. وتزداد السلبية مع اعتماد الحياة الحديثة على التكنولوجيا والصناعة، حيث يستخدم كل ذلك لتبرير عدم الاهتمام بالعلوم الإنسانية والاجتماعية ولا سيما علم التاريخ. بالطبع عدم الاهتمام بالعلوم الاجتماعية والإنسانية يتفاوت في شكله ومضمونه في مجتمعات صناعية متطورة عنه في مجتمعات نامية في طريقها للتطور، وترى أن جوهر التطور هو التنمية الاقتصادية والصناعية التي يمكن أن تساعد تلك المجتمعات في حرق المراحل للوصول إلى ما تعتقده مجتمعات حديثة ومتطورة.
ويعد علم التاريخ من أكثر العلوم التي يجرى دحرها بعيداً عن دائرة الاهتمام في أذهان الرأي العام أو المجتمعات، ذلك أنه في المجتمعات غير المتطورة يجرى تقديمه على أنه العلم الذي يأخذ المجتمعات إلى ماض لم يعد مفيداً وأنه خارج سياق التطور، وأنه يكبل المجتمعات عن التحرك نحو فضاءات المدنية المادية. من هنا نجده يعلم في المدارس بطريقة مختصرة جدا ويركز على الحفظ وليس الفهم والربط والتحليل.
إن التركيز على علم التاريخ بوصفه أحداثا وشخصيات وأنه هزائم أو انتصارات يجعله علماً غير مرغوب بل ويدفع إلى تهميشه بشكل يقطع كثير من المجتمعات ماضيها ويجعلها بلا جذور، فتصبح سهلة القطع والغياب من مسرح الإنجاز البشري. لم يكن التاريخ يوماً أحداثاً فقط، بل إنه يكاد العلم الوحيد الذي يثير الأسئلة الكبيرة حول الإنسان بكل تفاصيله الدقيقة، أسئلة تركز على الذات والهوية والقيم والإنجاز الحضاري والإبداع الفكري.
في عالم اليوم ثمة أمم تبحث عن تاريخ تكتبه لتضع نفسها على الخريطة البشرية وثمة أمم تتنصل من تاريخها وحضارتها بل وترى فيها عبئاً ثقيلاً ترغب في التخلص منها. المسألة الحقيقية هي أن التاريخ هو منعلق بالإنسان وإمكانية التخلص منها تكاد تكون ضرباً من المستحيلات. من هنا يجري تهميشه وجعله بلا مصداقية بين جيل المتعلمين.
إن الاهتمام بالتاريخ يبدأ بتعزيز صورته كعلم له أصوله في التلقي والتعلم، وإنه بتفاصيله لا يمكن أن يكون عبئاً بالنظر إلى سرعة التغيرات التي تعصف بالمجتمعات وتعصف بكثير من المفاهيم. التاريخ يمكن أن يحافظ على ذاكرة جمعية لحياة أي مجتمع، ذاكرة يمكن أن تعزز من مفاهيم الهوية وتبقي على القيم الإيجابية فاعلة وذات تأثير. يراعي التاريخ البعد المحلي الذي لا يتعارض مع عالمية التجربة التاريخية، وهذا يعزز التواصل بين تجارب المجتمعات ويجعل القيم عابرة للزمان وكذلك المكان.
إن العودة للاهتمام بالتاريخ وفق منهج علمي فيه قدر من تقدير بني البشر لعلم يُعنى بهم، وأن تجاهله لا يعني أنه سيذهب بعيداً!
محجوب الزويري
copy short url   نسخ
03/06/2016
4538