+ A
A -
كثرت المناطق المنفرة حول العالم. انتشرت في كل أصقاع الأرض. في بلدان الجنوب والشمال. ظهرت في الدول الفقيرة والغنية. تنتشر على هيئة حزامين كونيين يمتد أحدهما رأسياً من «أوشويا» في أقصى جنوب الأرجنتين إلى «نورليسك» في أقصى شمال روسيا. ويمتد الآخر أفقيا من «شوكوتكا» في أقصى شرق روسيا إلى جزر «آتو» في غرب الولايات المتحدة.
ومنطقتنا العربية ليست إلا واحدة من مناطق عديدة منفرة في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية بل وحتى في أوروبا وأستراليا وأميركا الشمالية. نعم حتى البلدان المتقدمة الثرية تعرف جيوباً منفرة تدفع بعض من فيها إلى الفرار منها. فلم تعد تلك البلدان كما كانت من قبل أرضاً للأحلام وإنما ظهرت فيها وجوه وسياسات منفرة تدعو إلى حظر الهجرة وطرد اللاجئين وتفريق الأسر واضطهاد الآخر.
وتدفع كل المناطق المنفرة بكثير من سكانها إلى الخروج منها. فإن لم ينجحوا في البعد عنها، اضطروا إلى الاغتراب فيها. فالمناطق المنفرة لا توفر للناس إلا بديلين: الغربة والاغتراب. إما الفرار بتغيير الجغرافيا أو الانكفاء بتطويع السيكولوجيا. إما الفزع إلى أراض بعيدة أو البقاء في الأراضي المنفرة مع الانشغال بكل ما يساعد على تخفيف الآلام من تعاطي الممنوعات إلى الدروشة وكافة صور الإسفاف الأخلاقي.
ولهذا فقد تكون المناطق المنفرة رقعا جغرافية بائسة ينتشر فيها الفقر والجهل والمرض ويتفشى فيها الظلم والعنف والفساد. وقد تكون أيضاً مساحات تفكير مزعجة تسكن أعماق الناس وطرق تفكير بالية وعادات جامدة وأعرافا سقيمة وضغوطا نفسية شديدة تدفع بالناس إلى النفور منها والابتعاد عنها بحثاً عن مساحات نفسية وفكرية أكثر طمأنينة وهدوء.
وإذا كان الخروج من المناطق المنفرة هو الحل الأول في كثير من البلدان الفقيرة المتخلفة، فإنه قد لا يكون كذلك في البلدان الثرية المتقدمة. ففي تلك البلدان الأخيرة قد يكون التخلص من الحياة وسيلة لتفادي المنفرات، وقد تكون العزلة والانطواء والابتعاد وسيلة أخرى. صحيح أن البلدان الثرية المتقدمة ما زالت تجذب إليها فارين من المناطق المنفرة في الدول النامية، إلا أن ذلك لا يحجب وجود معذبين في البلدان الثرية المتقدمة لا يجدون أمامهم وسيلة للتغلب على ما ينفرهم غير القضاء على حياتهم أو العيش متوحدين مع أنفسهم بعيداً عن المجتمع بكل ويلاته وعذاباته.
المناطق المنفرة لذلك هي ساحات أرضية كما أنها مساحات نفسية تشمل كل ألوان العذاب الحقيقي والمتوهم، السياسي والمالي والديني والاقتصادي والعرقي والنفسي. هي أراضي المعاناة والحروب والفقر والظلم والفساد والجهل والمرض والخوف والقلق. دفعت ولا تزال تدفع بالملايين إلى هجرها والبحث عن حياة أفضل في مكان آخر بعيد عنها أو إلى الحياة فيها لكن في حالة تهميش واغتراب كاملين. هي كذلك مناطق واسعة في العقل البشري مليئة بانطباعات قلقة عن النفس. فالنفور من تلك المناطق لا ينتج فقط من قلة الرزق وإنما أيضاً من ضعف الإحساس بالانسجام مع الناس أو من الغضب من نمط الحياة كله برغم ما قد يتسم به من رخاء ونعمة. ولعل قصة «ثيودور كازينسكي» مثالاً لذلك. فالرجل كان معجزة في الرياضيات. حصل على درجة البكالوريوس من جامعة هارفارد ثم الماجستير والدكتوراة من جامعة ميتشيجان ثم عمل أستاذا للرياضيات في جامعة كاليفورنيا، وكلها من الجامعات الأميركية العريقة. لكنه اختار بسبب نفوره من نمط الحداثة المكثف الانطواء والعزلة ثم تحول إلى إرهابي تسبب بالطرود الناسفة التي كان يبعث بها في مقتل وجرح عدة مواطنين أميركيين.
ولا يوجد أدنى شك في أن الحياة في المناطق المنفرة ليست سهلة، تكتنفها آلام وصعوبات جمة كثيراً ما يطلب الناس من حكوماتهم القضاء عليها. لكنهم غالباً لا ينتظرون الحل الحكومي لأنهم يعرفون أنهم لن يجدوه. ولهذا كثيراً ما يتصرفون بتلقائية وبدفع واضح من الفطرة. فيسافرون ويهاجرون إلى كل موقع يظنونه أفضل. غير أن أخطر ما يؤخذ على من يعيشون في المناطق المنفرة أنهم سرعان ما يتطبعون بطبعها ويتحولون من ضحايا يشتكون من التنفير إلى جناة يتسببون بسوء تصرفاتهم في اتساع نطاقه. وتلك هي معضلة المناطق المنفرة. أن من فيها يشتكي مما يضايقه ثم يمارس على غيره نفس ما يشتكي منه وأكثر. يعاني الآلام ثم يتحول إلى مصدر لها.
باختصار، المناطق المنفرة مواقع جغرافية وتجمعات بشرية غير مواتية للحياة تعج بأنماط ثقافية وسلوكيات كريهة تدعو إلى إعادة تأهيل عميقة للأخلاقيات والمشاعر والضمائر. مناطق تحتاج أن تركز أولاً وقبل أي شيء على تنمية الإنسان. فالنفور من مكان لا يحدث إلا بسبب ما يفعله الإنسان.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
16/07/2018
2124