+ A
A -
في كل زوايا المشهد القطري الداخلي، هناك حديثٌ صامت، حديث نفسٍ وتساؤلات بحث، غير أنه لا يطفو على السطح اليوم، هذا التفاعل الذي ازدحم في أروقة التواصل الاجتماعي وفي عيون أهل المجالس، لا يُصرّح بحديث المستقبل، ما هي علاقتنا مع دول الحصار في البيت الخليجي، بعد الأزمة، كيف سنعود، وهل سنعود؟
الملف هنا، متداخل وله بعدان الرسمي والشعبي الاجتماعي، أحسب الأول ولو لم يصرح بذلك، أي البعد الحكومي وغرفة الاستراتيجيات الوطنية، لديها تصور، لا تُريد أن تبعث برسائل نحوه حالياً، فاليوم لاتزال قطر تستشعر كلياً، أجواء الحرب، رغم أنها انتصرت في معركة مهمة، منذ أول الأزمة وهي التعامل مع شعوب دول الحصار، فهي قضية مسلّمة حتى من الخصوم، حيث لم يتعرض أحدٌ من أبناء هذه الدول للإبعاد، أو الفصل الوظيفي، أو منع الدراسة، ومنحت كل التسهيلات الاجتماعية للأرحام.
وهو ما خفّف وطأة البغي المجنون في قرار الأزمة، ورغم أن الدوحة تمسكت ببعث الرسائل الجيوسياسية، لعلاقتها الاجتماعية الخاصة، مع دول المحور، بحكم الارتباط الواسع للنسيج الاجتماعي، ووحدة الهوية العربية والرسالة الإسلامية، ومارست ضبطاً أخلاقياً، وظل التعامل الاستراتيجي مع الأزمة في موقعه، وهو أن الدوحة تواجه حالة حرب وجودية، عُطّلت خطتها الحربية، وانتهت اليوم، لكن روحها السياسية، لاتزال مشتعلة في ركني الهجوم، أبوظبي والرياض.
ومن هنا نفهم السياسة القطرية اليوم، بما فيها التحول المفاجئ في التعامل الإعلامي مع ملفات المنطقة، وفكرة أين تقف دول المحور، فهو ضمن خريطة الحصار، وهذا بعدٌ مفهوم في أوقات الحروب، وإن كان ليس بالضرورة دقيقا، فاليمن على سبيل المثال، ليست قضيته اليوم، بين الحوثي والبعد الإيراني، وبين التحالف التي تقوده أبوظبي والرياض فقط.
بل القضية اليوم، التي يكمن فيها انتصار اليمن الجمهوري، هو وقف الحرب ولكن، من خلال تسيد المركز السياسي للدولة، والحفاظ على بنيتها ووحدة تاريخ اليمن وتجديد مسيرته، وهذا بالضبط ما ترفضه بل تعمل على نقضه أبوظبي.
في كل الأحوال المركز هنا في تصوير المشهد، هو إيمان الدولة في حراكها، بروح الحرب الشرسة التي شُنّت ولاتزال عليها، والعمل يجري بكل زخمه في هذا التوجه، غير أن ذلك كله أيضاً، لا يمنع من أن هناك تقديرا استراتيجيا أيضاً، لما بعد الأزمة، ستعود بعده أسلحة الإعلام إلى وضع جديد، ولا يُطرح اليوم تصور محدد، لكن من السهولة الوصول إلى أن قطر ستتعامل بحيوية مع جهود التسوية، لو بدأت تعطي ثمارها، أما قبل ذلك، فهي تتعامل بالرد بالمثل على منطقة الحرب التي فُرضت عليها.
وهنا كان الشعور بالنصر واسعا، بعد تسلم شارة كأس العالم 2022، تجاوز الحدث الرياضي إلى السياسي القومي، ولقد استفادت الدوحة، من تصعيد دول المحور ذاتها على الدوحة، في هذا الملف، الذي بالفعل لم يكن بارزاً في بداية الأزمة، وأنه أحد عناصر تفجيرها، بعد أن نقلت أبوظبي مشاعر الحسد الصراعية، ضد الدوحة إلى الرياض في هذا الملف العالمي.
أما المشهد الثقافي الاجتماعي المهم، في قطر، فقراءته تعتمد عدة مؤشرات، وإن كان الصمت عن المستقبل ظاهرا، لكن لا يتوقع أن يقف هذا المجتمع بروح رفض لأشقائه شعوب دول المحور، اجتماعيا وحتى ثقافيا، وربما حتى بعض الوعّاظ الذين طعنوا ظهر الشعب القطري في الأزمة، ستعود منابرهم، وتحتشد المساجد لهم ويُقبل اعتذارهم، كما هم أطقم الفن والموسيقى والرياضة التي استخدمت في الحصار، ضد أهل قطر، لستُ هنا أجزم بحدود هذه العودة، لكنها غالبا ستتحقق، وإن بقي الأمر يخضع لحذر اجتماعي وحكومي.
ولكن على سبيل المثال، فالمزاج السلفي الاجتماعي العام، لأبناء الشعب القطري المتدين بفطرته، حاضرةٌ ولم تتغير في المجمل، وهنا يجب أن نعزل المواعظ العامة التي يحتاج لها الإنسان المسلم، والتربية الروحية، وفقه العبادات الفرعية، والتي يحتاجها الناس في قطر وغيرها، ومن الطبيعي أن تكون قطر جزءا من محضنها الخليجي، وبين صناعة الفكر والوعي الإسلامي الجديد، المتوازن بين المشترك والمختلف في دروس أزمة الخليج.
وهناك تطور وتغير فكري طبيعي، يقع في المشهد الثقافي لكل دولة، تتعرض لحروب وهزّات، ومن هنا نفهم صعود الأطياف العلمانية للقومية العربية، والتي بعضها أيضا يستمد مرجعيته الإلهامية من تيار القصيم الثقافي القومي الجديد، الصاعد في السعودية، أو رمزية الشخصيات القومية العروبية القطرية المستحقة للتقدير الوطني.
وهنا مفارقة مهمة، أن كلا التيارين المؤثرين في المشهد الثقافي القطري، التيار الوعظي السلفي والتيار القومي الجديد، هما من ذات البعد الاجتماعي الإقليمي في المملكة، كدلالة على تداخل الحالة الثقافية، وخاصة بعد الانفتاح القطري منذ 1995، وتأثرها بالمجتمع والمعارك الفكرية السعودية، والتي لاتزال تحت التأثير المباشر، حتى حادثة منصة ماجد المهندس.
في كل الأحوال ما يجب التأكيد عليه، هو تشجيع وتعزيز روح القبول والتسامح من الدولة، وفهم مساحات هذه التيارات، ومن ذلك الروح النرجسية التي قد تصعد في بعض أبناء المجتمع القطري، الذي يرفض ويطعن بعضه في كل من هو غير قطري، سواء كان من المؤمنين بإنصاف قطر، كمبدأ، تقاطعت مصالحه الطبيعية معها، أو انفصلت.
أو كان ذلك ضمن مهمة عمله ووظيفته، أساء أو أحسن، وعدم الفرز بينهما في حديث المحتجين، وهي قضية تحتاج إلى روح تدفع بها الدولة، لتشجع مفهوم الشراكة والحضور، ليستوعب أبناء قطر في مسيرة بناء واتحاد للجميع، وحتى لا تتحول هذه النرجسية إلى مستويات أكبر، فتفتك ببنيتها الاجتماعية الوطنية، التي انتصرت في تحدٍ تاريخي نجح به الشعب القطري، والتف مع أميره ضد مشروع إسقاط الدولة.
وما لفت نظري رغم وجود شخصيات ومجموعات وعي ثقافي مميزة، هو غياب التيار الثالث القطري، وعدم وضوح أي قاعدة اجتماعية أو ثقافية له، ونقصد بفكرة هذا التيار، مهمة البحث في جذور الأزمة والانطلاق من ثقافة عروبية إسلامية، تعيد تأسيس الفكر العربي في قطر، المتدين أو الذي يحترم تدين الشعب، والتقدم نحو مشروع النهضة والهوية الفكرية الإسلامية الحضارية، وفي اعتقادي أنه اليوم كمرحلة تأسيس، سؤال مجتمع ومسؤولية مثقف مع دعم الدولة.
تلك الهوية التي تُعتبر قطر اليوم من أبرز محطاتها، كفرصة تعاون وتعاقد مشرق وحيوي بين الدولة ومثقفيها، لصناعة قطر القوية بفكر إنسانها، ونهضتها.. والحقيقة أنني لا أملك إجابة عن سبب غياب التيار الثالث القطري، وهل أصلا هذا التيار برأي مثقف قطر مطلوب، سوى أن هذه الرؤية التي برزت لي في المشهد القطري، أحمل معها قلباً يفيض بالحب والدعاء، لهم ولكل بلدان الخليج العربي المجيد، فليرعاكم الله أرضاً وأهلاً.

بقلم : مهنا الحبيل
copy short url   نسخ
23/07/2018
4359