+ A
A -
قام الشرق الأوسط القديم على نظرية «سطوة الدولة الإقليمية» أو «الدولة الوظيفية» كما تٌسمى في بعض الأدبـيات، وتـقضي الاستراتيجية بتعظيم قدرة هذه الدولة على السيطرة وتحويل مسار الأحداث دائما لصالح القوى الاستعمارية التي رحلت والتي لم ترحل! أما الشرق الأوسط الجديد فمن الجلي أنه يطبخ على نار مشـتعلة وفق نظرية «الأقلية الوظيفية»!
يقال إن الاستراتيجية الكبيرة تٌعرف من الأفعال ACTIONS الصغيرة المتكررة، لذا عندما يتكرر فعل تعزيز موقف الأقليات وتوظيفها في أكثر من دولة أو إقليم في الشرق الأوسط تٌـفهم الاستراتيجية بأنها استراتيجية «توظيف الأقلية» بعد تمكينها على حساب الأغلبـية لغرض في نفس يعقوب! و«يعقوب» هذا ليس سوى القوى الدولية التي لها أهداف واستراتيجيات ومصالح قصيرة وبعيدة المدى!
دعم الأقليات وتوظيفها لتحقيق مكاسب سياسية أو عسكرية هي فكرة قديمة تبناها الاستعمار البريطاني في الهند وقلدته دول استعمارية أخرى في أكثر من دولة حتى في دول وأقاليم الشرق الأوسط بعيد تـفكيك الرجل المريض! لكن ما يحدث اليوم في الشرق الأوسط الجديد هو عودة الفكرة على ظهر هامر أميركي ودبابة روسية والغرض إعادة صياغة الشرق الأوسط ليكون تحت السيطرة بعد أن ظهرت بوادر الانـفجار والتـغيـير في أعقاب (الربـيع العربي) الذي تم اغتياله وسٌجلت الجريمة ضد مجهول!
وللحق فإن عملية إعادة تركيب الشرق الأوسط بدأت في أعقاب أحداث سبتمبر وجرى تطبـيق مفهوم تمكين الأقليات كما حدث مع الأكراد في العراق أو تمكين الطوائف المهمشة سياسيا كما حدث مع الشيعة في العراق كذلك، وليس ذلك حبا في الأقلية أو الطائفة المستـفيدة ولكنه لغرض التوظيف الكامل بهدف تحقيق الاستراتيجية الأكبر بشن حرب استباقية على مصادر العنف التي قد تصل يوما إلى الأراضي الأميركية، وتعيد ذكريات الطائرات الصاروخية مرة أخرى! لكن المميز في أحداث الأشهر الماضية هو تبلور استراتيجية «توظيف الأقلية» بشكل واضح كما لم يحدث من قبل خاصة في قصة الأكراد السوريين، وكذلك الأكراد الأتراك مع الثـنائي الخطير، أميركا وروسيا وتحتهما نظام الأسد وحكومة المالكي!
الحديث عن توظيف الأكراد في العراق وسوريا وتركيا لخدمة أهداف واستراتيجيات يـبدو أنها مشـتركة ومتـفق عليها بين هذا الثـنائي وأدواته الإقليمية، هو على الورق حديث ذو شجون لكنه على الأرض حديث متخم بالدهاء والدماء! اليوم توظف أميركا الأكراد السوريين لصيد عدد من العصافير منها دحر تـنظيم الدولة وإحياء حلم الوطن القومي الكردي وإثارة القلق في نفوس الأتراك وخلق ورقة سياسية تستخدم عند الحاجة! أما العصافير الروسية فهي كذلك تطير على طول حدود تركيا الجنوبية حيث توظف روسيا الأكراد السوريين لتحقيق مصالحها المشتركة مع نظام الأسد وتوظف الأكراد الأتراك لمناوشة تركيا وتكبـيل قدرتها على دعم المعارضة السورية!
أكثر من يعاني وسيعاني من تطبـيقات استراتيجية تمكين وتوظيف الأقليات هي دول الهلال الخصيب وتركيا إلى الشمال واليمن إلى الجنوب ودول أخرى يمنة ويسرة! بل لقد امتد شرر هذا الاستراتيجية إلى أقصى المغرب الأقصى حيث تجرى محاولات لإعادة احياء بعض الفـتن الشعوبـية والأحلام الانـفصالية سواء لتغيـير الخريطة السياسية أو للاستـفادة منها في الضغط السياسي وتحقيق التـنازلات!
في الهلال الخصيب (العراق وسوريا ولبنان) وفي اليمن، تبدو الصورة واضحة لكنها قاتمة وخطيرة على الأمن القومي العربي حيث تـقاطعت استراتيجية تمكين وتوظيف الأقليات مع استراتيجية (الصديق الإيراني) خاصة بالعودة للبنود غير المعلنة من الاتفاق النووي بين أميركا وإيران! بما إن التاريخ يـبدو في بعض الأحيان كفيلم سينمائي فقد ظهرت ولأول مرة قطعات الحرس الثوري الإيراني والميليشيا المتعاونة معها تـقاتل تحت حماية الطائرات الأميركية في العراق والطائرات الروسية في سوريا، حتى ستيفن سبيلبرج لا يستطيع كتابة أو إنـتاج فيلم سينمائي بهذا المستوى الخرافي! وبالكاد تظهر مثل هذه المعجزات السياسية حتى في سلسلة هاري بوتر!
فعلا من الواضح أن الاستراتيجية الدموية التي تــنظم الشرق الأوسط الجديد تـتـقاطع مع مصالح وأهداف دول وقوى إقليمية بعضها استـفاد وركب الموجة وحقق وسيحقق منافع استراتيجية لم يكن يحلم بها من قبل مثل إيران! وهناك دول أخرى تضررت أشد الضرر وأصبح أمنها الوطني أو القومي على المحك مثل تركيا ودول الخليج!
ومما يدل على قوة هذا التـقاطع أن الأقليات في إيران لا تـتـنفس ومحال أن تـنطبق عليها استراتيجية «الأقلية الوظيفية»! هذه الأقليات لا تحلم بالدعم والتمكين والتوظيف من الدول الكبرى المعنية بلعبة الشرق الأوسط الجديد ليس لأنها بعيدة عن محور العمليات الاستراتيجي بل لأنها تعمل في عمق «دولة صديقة» (إيران) تساعد أميركا وروسيا على تـنفيذ استراتيجياتها وتحقيق مصالحها على أتم وجه حتى لو فُـنيت العرب الصديقة والعرب المعادية على حد سواء!
د.صنهات بن بدر العتيبي
copy short url   نسخ
07/06/2016
4245