+ A
A -
في البداية، لنضع العنوان اليوم جانبًا لأخبركم عن حديثٍ دار بيني وبين صديق كل ما أعرفه عنه أنه يملك كثيرًا من الحكمة في هذه الحياة، فقد جَمَعنا حديثٌ ذو شجون حول نظرته التي لم تتغير نحو عُصبة من أهله جرّاءٍ أخطاء وخلافات حدثت في الماضي السحيق. وأخبرني أنه رغم كل ما يحدثه الزمن من عوامل تعرية وجلاء، إلا أنّ بعض العثرات لا تُغتفر وإن تظاهرنا بأننا قد تناسيناها تماماً. قال لي ذلك وهو يُعقب على مقالي المنشور بعنوان: (نحن لا نزرع الشوك)، فالشوك الذي يرميه بعض البشر في حياتنا من أخطاء وزلات لا تُقتلع وإن أحسَنَّا قُرب الجوار وبُعده، وإن (ادّعينا) المثالية وصافحنا الحياة بالسماح والمغفرة فبعضُ الآلام لا تُغتفر أمام مَحِي السِنين والأيام!
قد استهجنت الأمر برمُته في البداية وطلبتُ من الصديق التصالح مع ذاته أكثر وأن يصافح الحياةَ بقلبٍ أبيض، فأنكر عليّ طلبي مُعلِلأً أنه كذلك لكنه لا يستطيع الادعاء أنه يغفر العثرات التي تتجذر أحيانا في القلب والروح. كان ردُهُ هذا كفيلاً في إدخالي دوامة من التفكير عريتُ فيها ذاتي التي تعشقُ (المدينة الفاضلة) التي حلُم بها أفلاطون طوال عمره، وخِلتُني في هذا الموقف أحتاجُ مزيداً من الواقع! فهل حقاً لا نستطيع أن نغفر بعض العثرات؟
وخروجاً عن خصخصة الحوادث التي جرت لي وجرت للآخرين وتصنيفها في ملفات الغفران إن أمكن، هل النفس الإنسانية الضعيفة لم تُصمم كي تغفر وتصفح وتمضي قدماً دون أن يكون في جُعبنا أي شيء اتجاه بعض الشُخوص وبعض الظروف ذات الأذى المبالغ وكأن شيئاً لم يكن، لتُصبح نسياً منسيا؟
حقاً وَحدَهُ اللهُ الذي يَغفِر! إني أستغرب من أننا نرفع الأكف مرارا في صلواتنا وفي قلوبنا المخفية عن العالمين لندعو الله العليّ العظيم بالمغفرة رُغم اعترافنا بحجم التقصير الكبير الذي لا يوصف مع خالقنا أولا ومع أنفسنا ومع كُل من لهُ حقٌ علينا، وننسى (في بعض الأحيان) أن نُزيل عثرات العالمين معنا ونسحقها من رواسبها كأن نرُدَ رداً جميلاً أو نعفو ونُسّرِح الآخرين عنا سراحاً أجمل. أنا لا أدّعي المثالية أبداً، فأنا مثل صاحبي تمامًا الذي عاتبتهُ على عدم نسيانه أخطاء الأحبة رغم أنه لم يُقصِر في حُسن المعاملة والودّ والاحترام معهم، لكني حينها أعَبتُ عليهِ عدم تمكّنه من نسيان الماضي وغُفران ما كان يوماً بعيدا، عاتبته وطلبتُ منه لكنني بعد نقاب المدينة الفاضلة أدركت أني كذلك عالقة بين بعض الحوادث ومتوجسة من تكرارها من البعض بناءً على ما حدث يوما، فأنا حتما هُنا لم أغفر بل أغلقت عينا بطيب قلب وسلامة نية عن سوء ما جرى فأقابل الأحبة في حياتي بنَفَسٍ جديد، فدونهم كما نعلم لا تزين الحياة ولا تكون. حقاً الله تعالى وحدَه الذي يغفر فهو (الغفور) المطلق الذي نرتجي منه أن يسامحنا على عظيم الخطايا. ونحنُ البشر المساكين الذين علينا أن نُصَفِّي النفس من شوائبها في كل حين، رُغم أن بعض الأخطاءِ لا تُغتفر من الأعماق حتى لو سامحنا وعفونا وأحسنا، إلا أننا بحاجة كل يوم وفي كل دقيقة إلى فرصة لمنح المغفرة للآخرين فنحنُ كذلك نحتاجها منهم، بل نحتاجها كثيرا جداً ونحنُ لا نعلم. ولولا تلك الدورة الروحية الجميلة التي تحاول أن تُصفي الروح من كل شوادرها، لتصدعت كثير من العلاقات وأهملت عمرا طويلا لا يُعرف مداه. ولنا في تاريخنا العربي مسلسلات طويلة من النزاعات التي لم تُغتفر إلى ما شاء الله، وكفا بداحس والغبراء التي أشعلت قبيلتي عبس وذبيان أربعين عاما كمثال على ذلك!
قد تطول سيناريوهات التحامل لأكثر من عمر داحس والغبراء، فخطأ لا يغتفر لك قد يطولُ في قلب من أخطأت في حقه لسنوات قد تفوق الأربعين، قد تتعدى عمرك نفسه، قد تُورّث الأخطاء ليحملها جيل آخر لا تدري أين هو الآن فهو في علم الله تعالى لا محاله. لن أطلب أبدا في هذه الخاتمة أن لا نُسيء للآخر، فالنية رائعة لو أبطناها والسلوك أروع لو تمثلنا به، إلا أن بعض الأخطاء تظهر. فنحنُ جميعا نتفق على أننا لسنا بملائكة كما أننا لسنا بشياطين، لا أتلبس نقاب المدينة الفاضلة، فقد تركته اليوم لأفلاطون، لكني أتمنى عليّ أولا وعلى الأحبة من قراء ريشة الحبر في كُلِ مكان أن نحاول، نعم أن نحاول (فالأمر يحتاج إلى بذل محاولات متواترة تختلف في حجم كل ظرف) أن نغفر (ليس كما يغفر الخالق جلّ وعلا في عظمته مثالاً، فهو يغفر دون عودة لاجترار الذنب) بل كما يُحاول الصالحون أن يفعلوا: أن يغفرا ويحسنوا قولاً وعملاً. أسأل الله لي ولكم ألا يحمّلنا ما لا طاقة لنا به وأن يعفو عنا ويغفر لنا، وأن يرزقنا بالإحسان إحسانا جميلا وصفحا ومغفرة.
***
قال تعالى:( إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) النساء (149)

بقلم : خولة مرتضوي
copy short url   نسخ
12/10/2018
2783