+ A
A -
أَجَرَّبْتَ مَرَّة أن تُطِلَّ مِن نافذة الفُضول على عَالَم الغيبيات والأرواح الشِّرِّيرة تِلك التي تَكاد تَرتعش خوفا منها الأجسادُ، فإذا بجذع الإنسان يُصيِّرُه الرعبُ ريشةً تَتَطايَر كما تَشتَهي الرياحُ الجارية؟!
إنه الفضول الثقافي الذي يَدعوكَ اليوم إلى الإبحار على قارب الإبداع في سَفَر فني إلى جزيرة التشكيل تِلك التي تُغْرِي المتذوقين لِدَورة عقارب ساعات الخطوط والألوان وما إلى ذلك من أدوات الخَلْق الفني تلك التي يَهيم بها عشقا هذا الإنسان..
نافذة «بين حرفين» اليوم مشرعة على نهرِ دموع «الطفل الباكي».. ومَن يكون هذا الطفل سِوى اللعنة التي ضربَت صانِعَ جمالية اللوحة الفنية التي رسمَتْ حدودَها أنامل الفنان الخلاَّقة، لكنها لم تَكُنْ لِتُصَدِّقَ أنَّ ما نَسَجَتْه مِن براءة ستَحْصُده صَفَاقة..
«الطفل الباكي» عنوان لوحة تَأْسِرُكَ إشفاقا على بطلها الصغير، إنه الطفل الغارق في دموعه التي تُضْفِي على مُحَيَّاه مسحة مِن البراءة لن يُجَرِّبَ أحد مِنَّا أن يُصَدِّقَ أنها (البراءة) تُضْمِرُ للمحظوظ بِشراء اللوحة شَرّاً أُرِيدَ له وأنها تُخَبِّئ له مستقبلا آيِلا للسقوط وأنها تَدّسُّ له سمّ اللعنة في طَبَق البراءة الذي يُرْهِق إحساسَ العين قبل القلب..
إنه جيوفاني براغولين Giovanni Bragolin البَطَل الناطقة بِاسِمِه اللوحةُ، ذاك كانَ الفنان الذي اختزل في خطوط ضوئية معنى الطفولة الْمُغْتَصَبَة في عالَم سَرقَ شمسَ البراءة وتَركَ لنا البشاعة وذَيْلاً يَجْلِدُنا مِن الفظاعة التي لا يَسقط لِسَوْطِها صَوْت..
في مُحَيّا وَضَّاء تَتَباهى به طلعةُ طفلٍ مَنْسِيّ يَكتب جيوفاني براغولين قصيدةَ دموع تَتَفَجَّر يَنْبُوعا إلى ما لا تَوَقُّف، فإذا بِكَ أنتَ الرَّائي المتأمِّل للوحة تَقِفُ عاجزا عَن القبض على المعنى الهارب: كيف يُمْكِن للبراءة أن تَتعايش مع الفظاعة؟!
كيف يعقل ألاَّ تَصمتَ شفاهُ الدموع وثَمَّة قَبَس روحاني يشعُّ نورا في مَرايا مُحَيّا لا نَجِدُ الكلامَ لوصفه هو الطالع طلوع الشمس الزاحفة دَلالاً مِن وراء سراديب سماء الواقع الذي يَغْلِي غَلَيانا؟!
هل يُريد جيوفاني أن يَقول لنا: لا موعد للبراءة في بلاد الدموع؟!
أم تراه يَنْوِي أن يُبَلِّغَنا أنَّ سِتارَ البراءة الناصع البياض لَطَّخَتْه البواعث الأَمَّارة باشتعال الدموع؟!
هل يُريد أن يُشَكِّكَنا في حقيقة الدموع الكاذبة التي تَتَّخِذُ مصيدةً مِن مُحَيّا يَتَصَبَّبُ براءةً مِن باب الوهم؟!
أَمْ هَلْ.. وهَلْ.. وهَلْ؟!
صحيح أن اللوحة الباكية تَسْتَدْرِجُنا إلى شاطئ الحزن تضامنا مع بطلها الصغير الناظر إلينا بملامِح تُذِيب مُكَعَّب القلب، لكنْ لِنَقُلْ إن هناكَ أسطورة سَيَّجَتْ حدودَ عالَم الواقع الذي تُحيل عليه قصة الطفل..
مَنْ كان يُصَدِّق يا صديقي أن هذا المسكين جيوفاني براغولين سَيُصَادِف في إحدى خَرْجَاتِه صَبِيَّه الباكي ذاك الذي أَثَّرَ في نفسه مَبْلَغ أن يَدْعُوَه إلى بيته ويَرْسُمَه، مع أن الصَّبِيَّ الباكي بخلَ عليه بالتصريح بأيّ سبب يُذْكَر مِن جملة الأسباب التي جَعَلَت الدموعَ لا تُغادِر خَدَّيْه..
اللامعقول يَحْضُر بقوة لِيُصَيِّرَ الحَظَّ حليفا لجيوفاني براغولين، ومِن هنا تَعْرِف سلسلة لوحات «الطفل الباكي» طريقَها إلى الشُّهرة تِلك التي تُدِرُّ على صاحبنا جيوفاني ثروةً لا يَحْلُم بها فنان..
أَقُلْنا سلسلة لوحات؟!
نَعَم، صَدِّقْ يا صديقي، فالشَّقِيّ جيوفاني أُعْجٍبَ بطِفله الباكي إعجابَ بِيجْمَاليون بمنحوتته التصويرية لامرأته تلك التي تَوَسَّل إلى إلهة الحُبّ والخصب والجَمال أن تَنفخ فيها الروحَ لِيَتَسَنَّى للنَّحات عقد قرانه عليها كما تقول الأسطورة..
ولأن لوحةَ الطفل الباكي كانت تُخاطب وجدان الإنسان وتهزه هَزّاً في دعوة منه إلى جعله يُقْبِل عليها، فقد رأى جيوفاني مِن الحِكمة أن يَرسم أكثر مِنْ مَشْهَد لِيُجَسِّدَ دائما عالَم طِفله الباكي ذلك الذي جَعَلَنا نَغوص فيه مِلْءَ الرغبة..
ويَأتي مِلح الاسطورة مع قصة الكاهن الذي لَمَحَ لوحة الطفل الباكي، فطَلبَ مِن جيوفاني أن يَتخلص مِن طفلها الحقيقي الذي يَأويه في بيته قبل أنْ يَتخلص منه الطفل ذاك الذي يَذْرِف الدموع منذُ الْتَهَمَت النيران بيتَه وأهلَه، فالطفل، كما أخبرَ الكاهنُ جيوفاني، لا يَعْدُو كونه قوة شِرِّيرة تَمْتَحِقُ الآخَرَ أينما حَلَّتْ معه..
براءة الطفل الباكي تُرْكِع جيوفاني عَطْفاً عليه وشفقةً، فلا يَتردد في الاحتفاظ بطفله إلى أن يَعود الفنان إلى بيته يوما فيَجِده وقد احترقَ..
المثير في قصة لوحة «الطفل الباكي» هو انتشار أخبار تَقول إن ما مِن بَيت يَقْتَنِي صاحبُه اللوحةَ إلا وتَأكله النارُ، لكنَّ أكبرَ الأسرار هو أن كل ما في البيت يَحترق باستثناء لوحة «الطفل الباكي» تلك التي لا يُعرف سببٌ لنجاتها مِن المحرقة..
بين الحقيقة المنظورة والعوالِم الخَفِيَّة للأسطورة يَظَلُّ الحُكم للذوق الفني وتَبقى الكلمة الأخيرة لِلْعَيْن الفَنِّية التي لا تَكفر بالجَمال الإبداعي النابضة به اللوحةُ..
صاحبُنا جيوفاني براغولين لا غرابة أن نَراه يَعزف على وَتَر الإحساس لِيَلْتَقِطَ أكثرَ ما يُمكن التقاطه مِن حَبّ الحُبّ، إنه الحُبّ الذي يَسْتَجْدِيه بَطَلُه الصغير مِن عيون الناس، ومِن قلوبهم بالْمِثل، الحُبّ ذاك الذي يُسِرُّ به القلب إلى القلب وتُحَدِّثُ به العينُ العينَ..
لِنَقُل إن جيوفاني براغولين يَنجح في انتشال ورود المحبة مِن حدائق القلب، فإذا بِمَلاكه الصغير يَحار في كَمّ الأيدي الممتدة إليه وكُلّها رغبة في مسح هذه الدموع الأَمَّارة بانفراط عقد التَّحَكُّم في الْمَشاعر ما أن يُبْصِرَ الواحدُ مِنَّا صَبِيَّ اللوحة بِبُرْكان حُزنِه الثائر..
لا شيء يُؤازر العَين في محنة دموعها سِوى اليَد الحالفة ألاَّ ترتاح قبل أن تَكْنِسَ شوارعَ الخد الدامعة، وتُعْفيها مِن فيضان الأحزان الطافية شَلاَّلاً، هكذا نُخَبِّئ لطفل جيوفاني براغولين جِبالَ مَحَبَّة تَخْضَرُّ لها مدينةُ الطفولة تِلك التي أَقْسَمَتْ ألاَّ تَسْمَحَ للربيع بِمَغِيب..
لكنه الصمت الكاسر ذاك الذي يَكاد يشلّ حركةَ العقل في غياب منطق سليم يُفَسِّر دوران كرة العَين الجَيَّاشة بدموعها الرافضة تبريرَ أسباب النزول..
وهكذا بعيدا عن الإسقاط الميثولوجي، لا نَختلف في أن لـ «الطفل الباكي» جبروتا وسطوة تُطارد من خلالهما أصابع الفنان ذائقةَ الإنسان ذاك الْمُتَلَقِّي لِعِنَبِه الفَنِّي.
بقلم : د.سعاد درير
copy short url   نسخ
13/10/2018
2958