+ A
A -
قبل أيام صدر عدد خاص جدا من الجريدة اللبنانية العريقة (النهار)، العدد صدر ووزع في الأسواق مثل كل صباح، غير أن متابعي الجريدة فوجئوا بأن صفحات الجريدة بيضاء تماما، وخالية من أية كتابة عدا أرقام الصفحات واسم الجريدة واسم مؤسسها على الصفحة الأولى، لم يكن هناك أي خطأ في إصدار عدد من جريدة يومية بصفحات بيضاء، ليس هناك خطأ طباعي، الفراغ الأبيض كان مقصودا، هو احتجاج على ما وصلت إليه حال الصحافة المكتوبة من فقدان مصادر التمويل، كما صرح بذلك محررو الجريدة، فمما يبدو أن جريدة النهار أيضا في طريقها إلى الاستقالة والإغلاق وإعلان الإفلاس، على غرار الكثير من الصحف اللبنانية العريقة، كالسفير، التي أغلقت بالكامل، والحياة بطبعتها اللبنانية، وكملحقي أبواب ونوافذ الثقافيين في جريدتي المستقبل والأخبار، هذه الصحف التي تم إغلاقها لأسباب تتعلق بالتمويل كما قيل.
ورغم أن جريدة النهار بعد تقاعد مؤسسها، المثقف الكبير غسان تويني، ثم رحيله لاحقا، واغتيال نجله غسان، الذي ترأس تحرير الجريدة بعد والده، تحولت من جريدة وطنية إلى جريدة فئوية حزبية، كان دورها الأول مناهضة الوجود السوري العسكري في لبنان، الذي يتحول قوات ردع إلى قوات احتلال ووصاية، هذا التحول دفع بالنظام السوري وحلفائه في لبنان، كما بات واضحا الآن، إلى اغتيال تويني الابن، ضمن سلسلة عمليات اغتيال طالت العديد من الشخصيات المعارضة للنظام السوري ووجوده على أرض لبنان. رغم هذا التحول الذي أودى بمستوى الجريدة، لاسيما بعد استلام ابنة غسان التويني رئاسة التحرير، وانتقال أهم المثقفين الذين رافقوا المؤسس إلى جرائد أخرى، بحيث أصبحت النهار مؤخرا جريدة لا تتورع عن نشر مقالات وأخبار متواصلة تنضح بـ «الشوفينية الفارغة» ضد النازحين السوريين والفلسطينين في لبنان، فإن إغلاق جريدة بحجم جريدة النهار أمر مثير للأسف والحزن معا، وهو أيضا يشي بحالة الانحطاط التي يعيشها عالمنا، حيث تنفق مليارات الدولارات على صناعة الأسلحة، وإجبار دول العالم الثالث على شرائها لإبقائها غارقة بالحروب والصراعات الدموية التي تخلف أجيالا منقطعة عن زمنها وتطوره، بسبب ما يفرض عليها من الفقر والجهل والحرمان من التعليم ومن كل أسباب الحياة الحديثة، بينما يتم إغلاق صحف عريقة، وملاحق ثقافية، كان يمكن أن تعلب أدورا تنويرية ووطنية جامعة، لو قيض لها تمويل مهم وغير مشروط، ولا يفرض أجنداته الخاصة على خط هذه الجرائد.
ورغم أن الكثير من الجرائد التي أغلقت قد استبدلت ورقها بصفحات إلكترونية، ضمن سياق أتمتة الحياة المعاصرة، ورغم أن المواقع الإلكترونية السياسية والثقافية والاقتصادية والفنية أصبحت بدائل مهمة عن الورق، بكلفة أقل، وبسهولة وفي التصفح، إلا أن ثمة سحرا خاصا للقراءة الورقية، ربما مرد هذا السحر إلى حالة نوستالجية عاشها جيلنا والأجيال السابقة، فمشهد مقهى صباحي يمتلئ بمرتادين معتادين، يجلسون كلٌ على طاولته، أمامه فنجان قهوة وبيده جريدة كبيرة الحجم، يتصفحها ثم يطويها بعناية ويضعها بجيب سترته، ثم يتبادل الحديث مع زوار المقهى الآخرين عن آخر الأخبار، هو مشهد تفاعلي بامتياز، هذه العلاقة الإنسانية المباشرة والمتبادلة التي بدأت تنحسر مع استبدال الورق بالإلكترون، حيث يجلس متصفح الموقع الإلكتروني مع شاشة صغيرة جامدة، على كنبة في غرفته، أو حتى في المقهى، يقرأ على شاشته الصامتة، التي لا تصدر أي صوت يمكنه أن يلفت النظر، على عكس الجريدة التي تحدث صوتا أنيسا حين يقلب القارئ صفحاتها، صوتها هو ما يحدث التفاعل البشري في الأماكن العامة، بينما يأخذ صمت الشاشات نحو المزيد من العزلة وانقطاع التواصل مع الآخرين.
يبقى أن نأمل أن تكون الصفحات البيضاء لجريدة النهار بداية جديدة للجريدة، تعيد لها ألقها وتميزها الماضي.

بقلم : رشا عمران
copy short url   نسخ
16/10/2018
2306