+ A
A -
سعاد درير
في مواسم الحزن، تلك التي تَنحني لها أشجار القلب، تَبكي الطيور، وتَئِنُّ العيون في صمت الليالي الرهيبة بِوَقْعِ خُطى الشجون..
الحِيرة تَجْلِدُ، والناس نِيام، ولا أقدام يرَكض بها الزمن قُدَّامَكَ غير أقدام الظلام، تغِيبُ الشموس، تَثُورُ النفوس، ولا يتراءى لك غير القصيد محيطا يَحْمِلُكَ إلى مرافئ الانعتاق القَصِيَّة..
وحده الحُبّ يَنصب نَفْسَه مظلةً مُضيئة لِتُبْصِرَ الطريق إلى نفسك، الحُبّ الذي يَخلد هو ذاك، الحُبّ الذي يَخلد ويُصَيِّرُكَ خالدا بالْمِثل هو ذاك الذي لا يَتحقق إلا بين يديه وفي حَضْرَتِه محمد.
المديح النبوي ضَوْءُ مَنْ لا ضوء له، ضَوْؤُه يُعيد إلى عينيك نشوةَ الفرح وأنتَ تَجوبُ شوارعَ قلبك تلك التي تَأكلها العتمةُ في غياب لحن الحياة، وما الحياة إلا حزمة خيوط الضوء تلك التي تَسمح للهواء النُّوارني بالتسلل إلى ما بين ضِفَّتَيْ الروح.
نُور لا ظِلَّ له يَأتيك مع كل تمجيد لمحمد ومع كل صلاة تَرتفع في صومعة قلبك وأنتَ تَهتف باسمه، إنه اسمه الذي يُذيبك كقطعة السُّكَّر، وإنها حلاوة مَدْحِه التي تَجْدِفُ بكَ مِن سماء إلى سماء.
تلك سماوات الحُبّ الذي يُؤْمِن بكَ بقدر ما لا تَكفر به طيورُ قلبك، لا تَكفر به في فُصول الجحيم ولا في في فُصول النعيم..
شيء من الحُبّ الإلاهي هو الحُبّ المحمدي، حُبّ تُردِّدُه الوُرْقُ على بِساط الهديل، فيَنْقاد له السَّامع انقيادَ مَن يَتِمُّ له إحياء القلب القتيل..
ذاك هو القلب الذي جَنَى ما جَنَى في غزوات النَّفس الأَمَّارة بالسوء، ولا سوء أسوأ مِن نَبضِ حُبّ عابر، حُبّ يَعبر جسرَ الصمت في مدينة دواخلك، فإذا به يَكْسِرُكَ ويَأْسِرُكَ، ولا ينالك منه سوى الوَهَن والهَوان..
قِطعة مِن الحُبّ المحمدي للشاعر بن الخياط تَنْتَشِلُكَ مِن بحر الخوف ولَفْحِ السِّياط، من ثمة تُعيدك إلى دائرة الضوء النُّوراني ذاك الذي تَعْزِف له الروح الأنقى على مدار الثواني لِتُجَدِّدَ عهدَك بالسكينة على مدار الأنفاس تِلك التي لا صوت يَعْلو قُبَالَتَها غير صوت مَآذِن الطُّمَأْنينة:
«كُلُّ القُلوب إلى الحبيب تَميلُ
ومعي بذلك شاهد ودليلُ
أما الدليل إذا ذَكَرْت محمدا
صارَتْ دموع العاشقين تَسيلُ
يا سَيِّدَ الكونين يا علمَ الهدى
هذا المتيم في حماك نزيلُ
لو صادَفَتْنِي من لدنك عناية
لأزور طيبة والنخيل جميلُ
هذا رسول الله هذا المصطفى
هذا لرب العالمين رسولُ
هذا الذي رد العيون بكفه
لما بدت فوق الخدود تَسيلُ
هذا الغمامة ظَلَّلَتْه إذا مشى
كانت تقيل إذا الحبيب يقيلُ
هذا الذي شرف الضريح بجسمه
منهاجه للسالكين سبيلُ
يا رب إني قد مَدَحْتُ محمدا
فيه ثوابي وللمديح جزيل
صلى عليك الله يا علمَ الهدى
ما حَنَّ مشتاق وسار دليلُ».
[الشاعر ابن الخياط].
أنتَ الواهِم أن ما مِن شيء يُتْلِف ما كان مِن الخطايا وحَصَل، أنتَ الباحث عن أسباب تَكفي للهروب لا لمداواة ما انقطع وما كان مِن الشجون قد اتَّصَل، أنت العابث بمنديل الصفاء، أَمَا آنَ لك أن تَضْرِبَ لِنَفْسِكَ موعدا مع الروح عند خيمة شِعرٍ محمدية يَلَذُّ لك فيها أن تَمْدَحَ خَيْرَ البرية؟!
إذا ذَكَرْتَ محمدا ذَكَرَ النور قلبَك، فَرَقَّ له ولان، ولازَمَهُ الحنان.. إذا مَدَحْتَ محمدا ثَقلْتَ في ميزان أهل الجود والإحسان.
جودُك أنت المادح محمدا ما بَعده جود، وذِكرك إياه عنوانُ الخلود.
قَلْبُك ذاك الذي يَهْفُو إلى محمد ليس هو وحده الذي يَهفو ويَميل، إنما ترى المتنافسين يتنافسون على مدح محمد رسولنا هذا الذي لأجله يُنتظر من الدموع أن تَسيل، وتتلألأ رقراقة بصفائها كشلال النور.
شوق جارف إن لم يَسبِقْك اليوم سيَسبقك غدا إلى مقامه زائرا، وأنتَ الضارب بحروفك اليوم عرضَ جدار الهوى ستَراك غدا لأشعار حُبِّه ناثرا، مِلْءَ الرُّوح تَبوح، مِلْءَ القلب تُحِبّ، مِلْءَ النَّفْسِ تُحِسّ..
مَدارُ شمسِ هَوى حُبّه تتثاءب له الخلايا تلك المستيقظة مِن رحلة سُبات، مدار شمس هوى حُبِّه له أن يُبَدِّدَ ما فات، فلا يُذْكَرُ إلا تحت ثرى النسيان.
نَسمع قَدْرَ ما نَسمع، ونَكتب قَدْرَ ما نَكتب، وفي كل وقت وحين يَتجدد ذلك الشَّغَف الدَّفين، فإذا بالأصابع تُراوِد أوتارَ الإحساس عن نَفْسِها، ومِن ثمة تَشتعل نيران الحَرف رغبةً في التعلق بجلالِ كريمِ الخَلْقِ والخُلُق.
تَغريدات ابن الخياط الدمشقي تَضخّ دِماءَ الوصل الروحي ذاك الذي يَتجاوب له القلب واللسان، فإذا بها تَنتصر لِسيرة أَعْظَم إنسان، هو محمدنا الذي بِذِكْرِه تَسمو في المَلَكُوت الرُّوح، ويَلْتَئِم ما يَعْتَرِيها مِن جُروح..
لِيَكُنْ لكَ مِن حُبِّه نصيب، ولْيَكُنْ لك في ذِكره الطِّيب.. وَلْتُضِيئي يا شموعَ الروح.
بقلم : سعاد درير
copy short url   نسخ
27/10/2018
5112