+ A
A -
كَحُورِية على شاطئ البحر اسْتَلْقَتْ ذِراعُه اليسرى على صفحة طاولة منعزلة لِيَتَوَسَّدَها كبَحَّار أَتْعَبَه سفينُ العمر.. يَهيم في نشوة عمياء تَبتلع آخِرَ ما اعْتَرَضَ طريقَها مِن ومضات ما عاد يَحكمها سلطان في مثل ذاك الغسق.. لا يقطع هيامه إلا تِلك الرشفات المتوالية مِن كأس النسيان التي ضَمَّتْها يَدُه اليُمنى بحنان.. لا يَكاد يَرفع رأسَه إلا لِيَشرب جرعة أخرى من الكأس ثم يَعود لِيَدفن رأسَه كالنعامة..
ما هي إلا دقائق معدودة حتى كان قد ألقى في داخله بما تَبَقَّى مِن محتوى الكأس.. ثم رفع رأسَه لِتَبْدَأَ عيناه المتعَبَتان رحلةَ البحث عما تَبَقَّى مِن شذا امرأة أَبَت الأيام إلا أن تُلقي بها في طريقه لِتَمسح الخطا بالخطا..
أخيرا لمحها في ركن مُنْزَوٍ وهي تَتَمَلَّص مِن مساومة عابر ليل.. ما أن استقَرَّتْ عيناها عليه حتى حَدَّثَتْها عيناه بالالتحاق به..
وهل يٌفْقِه حاطبُ الليل أكثر مِن لغة العيون؟!
قبل أن يُلَمْلِم أشلاءَ جُثَّتِه ويَستجمع وقفتَه كإشعار بالمغادرة كانت قد تَعَقَّبَتْ ظِلَّه..
مِن فمِ غارٍ أَضْيَق مِن خرم إبرة خَرجَ «فارس» كالضوء الشارد.. قطعَ، بِتَرَنُّح، خطوتين تَفصلانه عن باب سيارته.. ركبَ.. وفتحَ الباب الجانبي لوردة آيلة للذبول تَجَرَّدَتْ مِن شَذاها في محطة الأمس القريب..
ما كاد «فارس» يُدير مُحَرِّكَ السيارة حتى سمعَ صوتَ انغلاق الباب الجانبي بعد أن دلفَتْ «شذا» كالشظية الخامدة..
مِن وكرِ الجرذان إلى عريش القِطّ الضِّلِّيل كانتْ عجلات السيارة تَلتهم المسافات.. بينما خيوط الذاكرة، كالعنكبوت، تُطْبِقُ على البقية المتبقية مِن وعي «فارس» وتَنسج في مخيلة «شذا» غداً صار في ذمة التاريخ قبل أن تَطلع له شمس..
كان حبلُ التفكير موصولا عند الاثنين لولا قطعَه انحباس فرامل السيارة..
في حركة عارية من الحركة نَزَلَ الاثنان.. خَطَا كل منهما خُطى حثيثة.. انفتحَ باب خشبي سميك.. دخلَ «فارس».. وما كادَتْ «شذا» تتفضل بالدخول ساحبةً خلفها صمتها الطويل حتى انتفَضَتْ لصوت المفاتيح وهي تَرتطم بسطح طاولة تُزَيِّنُه مِرآة تَعلوها صورة حائطية كبيرة أَشْبَه بلوحة تشكيلية باذخة البهاء..
كان صدى صوت «فارس» يَذوب في الفراغ وهو يُنادي، عبثا، «شذا» التي ما كادَتْ تَضَعُ وشاحها على ظهر كرسي نحاسي فخم (يَنبض باليُسر والرفاهية) حتى وَجَدَتْ في وجهها صورة حائطية لامرأة لا ككل النساء..
لم يَكن أمام «شذا» إلا أن اخْتَرَقَتْ بعينيها خُلجان الوجه الساحر الماثل في الصورة.. لذلك أعاد «فارس» النداء مرات ومرات ريثما انتبهَتْ «شذا» إلى وجوده في حالة انتظار لِتَستفسره مباشرة عن سرّ ذلك الوجه الساحر الذي شغلَ معظم مساحة الجدار..
تَلَبَّسَه الاضطراب.. كان سؤالها غير متوقع بالمرة.. سؤال سقطَ على أسماعه كاللعنة..
وهل يحتاج «فارس» إلى مَنْ يُذَكِّرُه بِخَيْبَتِه الثقيلة؟! هل يحتاج إلى مَنْ يَنبش في جُرح لم يَندمل بعد؟! هل يحتاج إلى مَنْ يُقَلِّب في دفتر لم تُبْلِه الأيام؟!..
أَكْبَر صفعةٍ أخذَها «فارس» في حياته كانت «أوار».. «أوار» ذات القَدّ المياس والوجه الساحر والعينين الناعستين.. لكن أيّ عينين؟!
فخَلْفَ العينين الناعستين كانت تَرقد الكوبرى التي نَفثَتْ سُمَّها في روح «فارس» وأَتَتْ على الأخضر واليابس مِن قِيَمِه ومبادئه.. ولما فشلَتْ «أوار» ذات العينين الناعستين في إلغاء كينونة «فارس» اشْتَدَّ أوارها فأعلَنَتْ عليه الحربَ بلا هوادة..
كانت نظرة واحدة مِنْ «شذا» كفيلة بأن تُعَرِّيَ حقيقةَ الوجه الماثل في الصورة وأن تُسَلِّطَ الضوء على مكامن اللؤم فيه.. بينما كانت لمحة واحدة مِن بصرها كافية لِتَقْرَأَ في عينَيْ «فارس» ملامحَ الانكسار والعَجْز وقِلَّة الحيلة..كأن الرجُلَ الذي انتصب على مقربة منها حُطامُ رَجُل أو أشلاء إنسان..
نظرات «شذا» تِلك الْمَلْأَى بعلامات التعجب والاستفهام اسْتَدْرَجَتْ «فارس» لِيَبوح بالشجن الذي أثْقَلَ صدرَه.. عاد ليُمسك بتلابيب الذكرى.. وفي حين كان هو يَبوح، كانَتْ أوصاله تَتَمَزَّقُ ألما وحرقة..
استرجع «فارس» تفاصيل الذكرى.. تَذَكَّرَ كيف فَقَدَ حصانَه في معركة خاسرة.. حكى قصته مع «أوار» وكيف تركَتْه وفَضَّلَتْ عليه أوراقَ تاجر عُملة..
كان يَذرف اعترافاته عن طيب خاطر وكأنه في حضرة راعي كنيسة.. فأحيانا يَبذل المرءُ قصارى ما لديه نظير أن يَلقى أُذُناً تصيخ السمع..
كانت الدموع تتفجر مِن مُقْلَتَيْ «شذا».. تَئِنُّ في صمت.. وكأنَّ المصابَ مصابها.. إلى أن لفتَتْ شهقاتها المتكتمة أنظارَ «فارس».. وقبل أنْ يَستسلم لشعور طافح بالشفقة والمواساة قابلَها بالنظرات المستفسِرة نفسها..
كانت مراسيل الدموع كافية لتَشرح له قصتها مع «وطر» المراهق الثري الذي أَمْطَرَها شِعرا وثناءً ووعودا كاذبة.. ونصبَها أميرة بلا إمارة..كانت لهفة «وطر» على «شذا» كلهفة موجة شَبِقَة تُهَرْوِل لاحتضان غَوَّاص مبتدئ..
ترى مَن ألقى في طريقها بهذا الرمح الأعمى؟!
مِلْءَ العينين بكى «فارس».. وما أَصْعَبَ أنْ يَبكي الرجُل! شاطرَها الألم.. وبكى بحرارة..
كان مِن الصَّعب على «فارس» أن يَتَقَبَّلَ كَوْنَه رجُل القانون والأستاذ المحاضر بكلية الحقوق.. في حين لم يَحكم قلبَ امرأة... وكيف يَحكم بين الناس مَنْ لا حُكم له على قلب امرأة؟!..
وأيضا كان مِن الصعب على «شذا»، وهي طالبة الحقوق التي قَضَتْ في رحاب كلية الحقوق أربع سنوات، أن ترى حَقَّها يُهان ولا يُصان..
لقد جمعَتْ بين «فارس» و«شذا» قصيدةُ الدموع.. بَكَيا معا حتى صدح صوت المؤذن بأذان الفجر..
التقطَتْ «شذا» وشاحها مِن على الكرسي.. التقطَ «فارس» مفاتيحه مِن على الطاولة.. خرجا مِن الباب نفسه.. ركبا السيارة نفسها.. سحابة صمت تُخَيِّمُ على سمائهما.. عجلات تَلتهم المسافات.. سماء مُرْعِدَة بعُنف وصخب.. رعدة فجائية ممطِرة.. بدل أن يَدل «فارس» سيارته على وجهة معينة يَهيم في شرود عميق ويَترك عجلاتها تَدله..
مِن عريش القط الضِّلِّيل إلى وكر الجرذان وقعُ توقف مباغت لفرامل السيارة.. تنزل «شذا».. تعزف عن ولوج الوكر.. تَجرّها قدماها إلى الاتجاه المعاكس لتَغتسل بالمطر.. وتختفي رويدا رويدا.. حتى تغيب في الظلام.. يستقل «فارس» سيارته.. تخفت أضواء السيارة رويدا رويدا.. حتى تَغيب في الظلام..
بقلم: سعاد درير
copy short url   نسخ
29/12/2018
3119