+ A
A -
إنَّ الأجهزَة اللوحيَّة والهواتف الجوالَة ليسَت ضرورَة من ضروريّات تربيَة الأطفال، لكنَّها في هذا العصر أصبحت أول الوسائل المُلَهِّيَة التي يحرِص الآباء على توفِيرها لأبنائهم كي يقضوا معها ساعاتٍ من اللهو والتعلُّم ويبتعدُوا عن مظاهِر الإزعاج والضجيج والمشاغبَة في أرجاء المنزل أو في أيِّ مكانٍ آخر.
اليوم تخلو المشاهدات تقريبًا من أطفال لا يحملون هذه الأجهزة، حتى تلك الأُسَر التي تجد أنَّ هُناكَ نوعاً من المبالغَة في شِراء هاتف جوّال أو جهاز لوحِي مُخصَّص للطِفل؛ تجِدُها في نِهايَة الأمر تمنَحُ أطفالها ساعاتٍ من الاستخدام والمشاهدة (الحُرَّة) لأجهزة أحد الوالدين، المشكلة لا تكمُن بتاتًا في هذا الأمر.
فالطِفل ابن بيئتِهِ الأُولى بامتياز ويتربَّى بالمُحاكاة، وأوَّل مَن يُحاكِي هم والداه وأهل بيتِه، فهم يجدون والديهم منكَبّان على هذِهِ الأجهزَة ويرغبُون في تقليدِهِما وتقليد من حولهُم كذلك، وهذا شيء طبيعِي جدًا، الأمر غير الطبيعِي هُو أن تُترَك هذِهِ الأجهزة بشكلٍ حُرٍ من هؤُلاء الأطفال دونَ رقيبٍ أو حسيبٍ، فالغالِب الأعَم من الآباء لا يكترثُون بنوعيَّة المضامِين التي يصُول الطِفِل فيها ويجُول آناءَ الليلِ والنهار، فهُم على طمأنينَة تامَّة أن طفلهم جالِسٌ في مكانِه، وقد تناوَلَ طعامَه وإن كان في عُمر المدرسة؛ أنَّهُ أكمَلَ فروضَهُ المدرسيَّة، وأنَّهُ لا يُحدِثُ جلبَةً في المكان ولا إزعاجًا ولا يتسَبَّبُ بإحراج والدَيهِ، دون أن يفكِّرا فيما ينصَرِفُ وقتُ هؤلاء الصغار ويجعلُهُم يركِّزون ويصمتون كُل هذا الوقتِ الطوِيل!
تُحدثني إحدى الصديقات عن العادات السيئَة والألفاظ النابيَة التي اكتسبتها طفلتُها ذات الأعوام الخمسة، وتقُول إنَّ هذِهِ صغيرتها الغضَّة الصغيرَة أصبحَت تُقلِّدُ فتيات الإعلانات (الفاشينيستات) في التصرُّفات والألفاظ، وأن شُغلها الشاغِل هُو كيف تضع (أحمر الشفاه) بشكلٍ جيدٍ!، وصديقة ثانية تشتكِي من ابنها (سبعة أعوام) الذي عبَّر لها عن (حُبِّهِ) لإحدى الفاشينيستات ورغبتِه الارتباط بها عندما يتخرَّج من الجامعَة! وإحدى القريبات التي تُخبرنِي أنَّها نادِمَة على كُل لحظَة ضحكَت فيها على ابنها أو بنتِها وهم يُقلِّدُون هذا المهرِّج أو تِلك المهرجَة مِمَن يملؤون آفاق برامِج التواصل الاجتماعِي، تلك الضحكات لم تعُد عليها اليوم إلا بالقلق عليهم وعلى مُستقبلهم، فـ(القِط الكبير لا يتربَّى) كما يقولون، وكانَ لزامًا عليها وعلى كُل الآباء أن ينتبهُوا لخُطورة ترك أبنائهِم مع الإنترنِت ووسائِل التواصُل الاجتماعِي كي تقوم بتربيتهِم وتعليمهِم بالشكل الفوضوِي والسلبي هذا.
قارئِي العزيز، لعُقودٍ كثيرَة كُنّا نتحدَث عن خُطورَة ترك الوالدين لأطفالِهِما الصِغار في أيدي العامِلات؛ كي يقُومُوا بمهِمَّة تربيتِهم وتوجيهِهِم وتعليمِهِم، اليوم تعدَّى الأمر هذِهِ المرحلَة، وأصبحَت الأصوات الواعِيَة تُطالِب الآباء بضرورَة عدم ترك أبنائِهِم لوحدِهِم مع هذِهِ الأجهزَة الذكيَّة والخطيرة؛ لِما تبُثُهُ من سُمومٍ وتغريبٍ وأمراض يصعُبُ مع الوقت النجاة والشِفاء مِنها.
نحنُ نتكلَّمُ إذَن عَن جِيلٍ بأكملَه، هؤُلاء الصغار جدًا اليوم، سيكبرُون بإذنِ الله ورعايتِه قريبًا وهُم من سيُطلَبُ منهُم حمل رايَة الأوطان، والعمَل على رفعَة شأن الأُمَّة من مشرِقها إلى مغرِبها ونفِض كُل أرذال اليوم وأغلالِه عنها، ولكن، كيفَ يُمكِن ذلك؟ وأطفالُنا اليوم أُغتِيلَت طُفولتُهُم بشكلٍ كبير، وأصبَح الآخَر المجُهول (أيًا كانَ هذا الآخر) هو من يقُوم بتحديد هُويتِه وانتمائه وذوقِه ومستقبلِه وذخيرتِه اللغويَّة وغيرها من المُحدِّدات والأُطُر الكُبرى. وبرأيي الشخصي العِلاج يبدأ من الداخِل، كما بدأ المرضُ تمامًا، فالأُسَر عليها أن تُخَصِّص لأطفالِها وقتًا في جدولها اليومي والأُسبوعِي، فمكافأة الطِفل لا تكون فقط بمنحِهِ جهازًا إلكترونيًا جديدًا، أطفالُنا بحاجة إلى أن يمتلكُوا المزيد من وقت والديهم الثمين لا من جيوبهم العامرَة، ذلك الوقت الممنوح يصنعُ الفارق الأكبر يجعَلُ هذه العجينة الغضَّة سهلَة الإعداد والتكوين، ويمنحُ الطفل أنموذجًا داخليًا للاحتذاء والمُحاكاة والتأثُّر، وتمنعُهُم من الأمراض العقليَّة والبصريَّة والعُضويَّة والسُلوكيَّة (القلق والاضطراب الدائم وعدم التركيز وحدوث اضطرابات خلال النوم، الشعور بالتوتر الدائم، العنف الزائد وفرط الحركة، الشعور بالاكتئاب، الشعور بقلة الثقة بالنفس وأحيانًا انعدامها، وغيرها) التي تُصاحِب الاستخدام المفرَط للأجهزة الإلكترونيَّة الذكيَّة.
ومن المهم كذلِك أن يقوم الوالدان بتوعية أطفالهم وتوجيههم لما هُو مسموح وآمن للاستخدام في فضاء الإنترنت وبرامج التواصُل الاجتماعي، ويبينُوا لهم أسباب ذلك مع مراعاة طريقة توصيل المعلومة إليهم، ويُمكن للوالدين حجب بعض القنوات على اليوتيوب وبعض الصفحات على الفيسبوك وتويتر وإنستغرام وبعض المواقع الإلكترونيَّة مثلُا ومراقبة منصّات التواصل الاجتماعي للطفل وكذلك تحديد أوقات معينة لاستخدام هذه الأجهزة حتّى لا يكُون الوقت متاحًا على مدار اليوم، إضافة إلى التحدُّث مع الطفل باستمرار حول أبرز ما رآه وأثار اهتمامه في هذا الفضاء.
وأجِد أنَّه من الضروري ألّا يُسمَحَ للطفل بمتابعة الأطفال المشاهير أو حتى مشاهير منصّات التواصُل الاجتماعي وأخص منهم (فتات ورجال الإعلان والتهريج) فتلك الحسابات لا تروِّج إلا التسلية السوداء التي لا تُسمِنُ ولا تُغنِي من جُوع وتعُودُ بإسقاطات قيمية وتربويَّة خطيرَة على الصغير والكبير معًا، مع التأكيد على نُقطة مهمَّة جدًا، وهي أنَّهُ عِندما ننهرُ الصغير من متابعَة هؤُلاء لا يعنِي أن نسمَحَ لأنفُسِنا بمتابعتِهِم، ولو من باب الفُضُول، فالطفل كما ذكرتُ آنفًا ابن بيئتِه مُشاهداتِهِ الأُولى ولن يفهَمَ نهائيًا هذا الاستثناء التناقُض الذي يقُومُ بِهِ والديه.
قارئي العزيز، ورُغم كُل الإسقاطات والثِمار السلبيَّة التي يُمكِن أن يجنيِها أبناؤنا من سحابَة الإنترنِت وبرامجِهِ المختلِفة، يمكِن القول إنّهُ ومع الاستخدام المُقَنَّن والموجَّه لهذِه التقنيَّة يُمكِن أن يجنِي الطفل ثمارًا وإيجابياتٍ طيبَة ينتفِع مِنها، فعلى سبيل المثال، توجد العديد من القنوات التعليميَّة المخصَّصّة للطفل عبر برنامج اليوتيوب تقُوم بزرع قيم وسُلوكيَّات جميلة جدًا، كقيم الصدق والأمانة وحب الوطن، إضافة إلى تعليم اللغات المختلفة في سِنٍ مبكرَة وغيرها الكثير من الجوانِب المضيئَة النافعة، ورُغم كُل هذهِ الإيجابيات، لا يُمكن أن يُسمَحَ للطِفل أن يُتركَ مع هذه التقانَة لتربيةِ كيفما شاءَت، والطِفل يبقى أمانَةً عندَ والديه، وكُل ما يبدُرُ مِنه من تصرُّفات إيجابيَّة كانت أم سلبيَّة، لن تكُون إلا نتيجَةً لرصانَة أو حماقَة التربية الوالديَّة!
بقلم: خولة مرتضوي
copy short url   نسخ
11/01/2019
3226