+ A
A -
في المشافي الأجنبية، تشعر أنك بحضرة مكان مقدس، فلا تسمع سوى الموسيقى الهادئة وصدى الهمس المُحَدِق بالجهل والمخرِس للصخب.
ولبعض المصحَّات الأوروبية حدائق غناء بأصص زَهْر «الجيرانيوم» وبراعم الزنبق وقطوف البيلسان. هنالك يستمتع المرضى بالعُشب ويلتحفون بالشمس ويغمرون زخات المطر. لذا، فالبعض يتحرى لدى سفره حجز الغرف في المصحات عوضًا عن النُزُل كنوع من السياحة العلاجية، فالأكل صحي والخدمة أنظف والرعاية الصحية متوافرة والمتابعة أدق.
لكن يظل أجمل ما في العلاج بالخارج أنه مهما كانت جنسيتك، فإنك تُعامل ماديًا، طبيًا وإنسانياً بمنتهى الاهتمام، بينما تسعيرة العلاج ببعض الدول العربية، تختلف باختلاف جنسيتك ومعارفك وحيثياتك وشهرتك وبلد المنشأ أو البلد الذي تعمل فيه.
-مشافي وطني الخاصة يمكن أن تذيع أي شيء عدا توافد زغاريد الممرضات الطامحات للبقشيش عند ميلاد نفس جديدة، تلك ظاهرة شائعة شيوع الذباب على الأسماك، وتضاهي نظيرتها النائحة المستأجرة.
أما والليل قد أرخى سدوله، فالأمر متروك لمزاجية الممرضة المناوبة والتي ربما تكون جارحة كالصقور نهارًا، باستثناء لو كانت بصحبة الطبيب، فهنالك تتجسد كأنموذج للرحمة، أما لو طَيَبتَ كفيها بدِرهم في غَسق الليل، فهي وديعة، مؤمنة بالمُعتم من الأقدار. واهٍ لو داهنتها بدينار، فلسانها الثرثار سيخشع بـ«تحت أمرك» وستكون دليلك لطبيب أشطر، شريطة أن تُخفي سِرها بين غياهب الغيوم، ولو طال بكما السهر، لربما باحت لك عن سبب إحجام الطبيبة المساعدة عن الارتباط بأكثر من زميل تقدم لخطبتها، لتعلقها بأستاذها الجراح المستمتع بعشق الممرضات الصامت، حتى أنه يغذيه باهتمام زائف، فتعجز الطبيبة المسكينة عن النوم ليلًا لمعايشتها أحلام يقظة تقترن خلالها بأستاذها، ثم تواصل العمل صباحًا كالقطيع، ليضيع عمرها وهي مكتفية بصحبة الأستاذ، فيما يظل الأخير يرمي صغار البساريا من طعم الاهتمام الذي لا يؤاخذ عليه، حتى يوافيه الأجل، أو ترد له جريرته في مصير ابنته.
-قد تعاتب نفسك ساعة رؤيتك للممرضة المسكينة غافية، منهكة وجبينها المتعرق ساقط في حضن ذراعيها على مكتب بركن قصي، فوقه جرس لا يهدأ رنينه، ترتعش أنواره بين أحمر وأخضر، وبطرف المكتب ملفات متراكمة، وبجانبه بقايا شطيرة بلا لحم مقدد. وقدح من القهوة، بَرد قبل أن تحتسيه حين أرادت التعكز على البُن لتشق بطن الإجهاد، لرتق غفوتها بيقظتها حتى تنهي ورديتها بسلام.
تُراها كانت تتوسد أحلاما مخملية؟
تعسًا لرنين الأجراس، فقد سحق غفوتها، فجفت خمائل الأحلام.
فآهٍ ضنك العباد وألف آهٍ على العوز المستشري بشرق البلاد.
ليلاَ، قد تختار ذات الممرضة موجة أثير محملة بصوت نجاة وأحلى مقطع
«حبيبي لولا السهر ما حد شاف القمر
ولولا جرح الهوى ما عاد له طعم الهوى
وأشوفك يا عيون حبيبي، تحلى لي نار الهوى»
أسمع المقطع، ثم أطوف حول الدور كطاحونة حيث أسلم قدميَّ لمكعبات «الكانالتيكس» وأذكر جهلي ومراحي وأنا غضة غريرة حين كنت أمشي حجلة وفقًا للون بلاطة معينة أتخيرها.
بالكاد أمشي متعكزة على حامل المحاليل وصوت نجاة في الكوبليه الثاني يؤنس وحشتي.
وأستمر في الطواف كصفر حول محور لا قيمة له، تنفيذًا لتعليمات الأطباء لضمان حركة الأمعاء ولعدم تجلط الأحمر في العروق.
وبكل دورة كوبليه جديد:
«النجمة البعيدة شافتني وحيدة، جات تسأل عليا وباست عنيا»
أستمع للمقطع لدى مروري على مكتب الممرضة، أومئ لها فتبتسم، ثم أومئ لها وإن غافية، تقديرًا لشرف عنايتها بأجساد، أهلوها نيام.
لحظات الإفاقة من البنج على صوت بعض الممرضات العالي ينبع من جوف الدناءة. فآفة الطب في بلدي هو فقر خدمة ما بعد الجراحة الناجحة، لكن المشكل أن الطبيب يلفظك بعد العملية، يمر عليك ثاني يوم ليخبرك أنك «زي الفل» ثم يهملك للمساعدين وكثيرًا ما تُفاجأ أن عليك أنت، تعلُّم أصول التغيير على الجراح.
ما أقسى أن يأتيك الجرح من الطبيب.
كاتبة مصرية
بقلم: داليا الحديدي
copy short url   نسخ
19/01/2019
2533