+ A
A -
في شهر العبادات تتضاعف الحسنات، وتتقلد العقول مع القلوب أعلى الدرجات، ولا مراء أن هذا الشهر الفضيل، هو مدرسة المؤمنين، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. فرصةٌ مثاليةٌ للروح كي تسمو وترتقي بما يُهيئه لها هذا الشهر الكريم من مساحة تتسم بالروحانية والخضوع لله عزّ وجلّ. ذكر ابن القيم في كتابه (مختصر زاد المعاد): «وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادة، وكان جبريل يدارسه القرآن في رمضان، وكان يكثر فيه من الصدقة والإحسان، وتلاوة القرآن، والصلاة، والذكر، والاعتكاف».
وما يُميز الشهر الكريم ارتباطه الوثيق بالقرآن الحكيم، إذ أُنزلَ فيه كما نصّت على ذلك الآيات، وهو أعظم الذكر. فالقرآن المجيد كما وصفه الله عزّ وجل: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (سورة آل عمران: 138)، كما شهد للقرآن الوليد بن المغيرة، وهو كافر به، بقوله: «...والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته». فكيف للمؤمن به أن ينأى بنفسه عن ظلاله الوارفة، وينابيعه الصافية؟! نسأل الله أن يجعله ربيعًا لقلوبنا، ونورًا لصدورنا، وجلاء لأحزاننا وهمومنا.
وبفضل الله أصبح النّاس أكثر وعيًا واهتمامًا بأداء حقوق هذا الكتاب المنير، بتدارسه وقراءته وتدبّر آياته ومعانيه، وبات الكثيرون لا يكتفون بختمةٍ أو ختمتين؛ طمَعًا في الأجر العظيم الذي ثبت في أحاديثَ صحيحة، أشار إليها كثيرٌ من العلماء والفضلاء من الناصحين والدعاة.
ومع قراءة الآيات، بعقولٍ حاضرة، يأتي التدبّر والتأمّل والتفّكر في معانيه، أوامره ونواهيه، تبشيره وتحذيره، قال الله تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (سورة محمد: 24). كما ذكر ابن القيم في هذا الباب: «وكان صلى الله عليه وسلم يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، والمقصود من القرآن تدبره وتفهمه، والعمل به. وتلاوته، وحفظه وسيلة إلى معانيه، كما قال بعض السلف: أنزل القرآن ليُعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً. قال شعبة: حدثنا أبو جمرة قال: قلت لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، وربما قرأت القرآن في الليلة مرة أو مرتين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لأن أقرأ سورة واحدة، أعجب إليَّ من أن أفعل ذلك الذي تفعل، فإن كنت فاعلاً لا بد، فاقرأ قراءة تسمع أذنيك، ويعيه قلبك».
وليسمح لي القارئ الكريم أن أدرج هنا بعض الآيات المحكمات، من سورتين مختلفتين، وليقرأها في المرة الأولى قراءته المعتادة، وفي الثانية قراءة تدبّر وتأمل.
قال الله تعالى:
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174) [آل عمران]
وقال جلَّ في عُلاه:أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]
والمُتمعّن سيجد أنه من غُبن النفس انصراف المؤمن عن تدّبر الآيات، متقاعسًا، عن جني ثمار التدبّر المتمثلة في تنبيه العقل، وتزكية النفس وتطهيرها، وحثّها على العلو بقراءة القرآن العزيز روحًا وعمَلًا. فالقراءة تختلف عن التدبّر إذ تُعطي فهمًا أعمق وأوسع، ولعل المتابع لبرنامج الشيخ فهد الكندري «بالقرآن اهتديت» شَاهَدَ وشَهِد ما لتدّبر الآيات من أثر وعاقِبة.

بقلم : زهرة بنت سعيد القايدي
copy short url   نسخ
11/06/2016
3187