+ A
A -
مسطرة قانون الحُبّ تَحكم بما لا تُمْلِي به عليكَ مرآةُ الواقع، وعاصفةُ العبث تَجني يقينا على مستقبَل هذا القلب الضائع.. لِنَقُلْ إنه شَظَفُ العاطفة يَعصف بهيكل مدينة القلب عَصْفَ زلزال تَرتعش تحت وطأته روحُكَ الخائفة..
أن يَلعب معك الحَظّ لعبتَه السخيفة، هذا أسوأ ما يمكن أن يَحصل لك، فلا شيء، لا شيء سيكون في انتظارك حينئذ سِوى سخرية عقارب ساعة القَدَر تلك التي تَدور في الاتجاه المعاكس لتيار رغباتك..
«إيما» بطلة رواية «مدام بوفاري Madame Bovary» عاشت هذه المهزلة، واحترقت بلظاها بعد أن فَصَّلها على مقاس أضلُع المأساة المبعثَرة مُبْدِعُها وصانع عبقريتها ومحركُ التشويق في حلبتها هذا المدعو غوستاف فلوبير Gustave Flaubert..
كاتب الرواية الشهيرة غوستاف فلوبير ترك مظلةَ الحقوق جانبا، وفضَّلَ أن يتبلل كليا منتعشا بوابل الأدب الذي استدرجَه إلى شاطئ المغامَرة الروائية، ومن ثمة تَفَوَّقَ قلمُ الكاتب على وزرة المحامي والقاضي في مِحَكّ البطولة..
مؤلِّف كتاب «التربية العاطفية» غوستاف فلوبير يَحكي بلسان ناعم نُعومةَ بطلته «إيما» ما يَحكيه سُور منسِيّ في مدينة بلا جُدران تَثأر لوحشة المكان، فكل ما تَتَمَحْوَرُ حوله الرواية مِن جوانب موضوعية عززتها بنجاحٍ الصياغة الفنية الرشيقة الخطوات.. إنها العاطفة الْمُسَيَّجة بسياج الشوك، أو لِنَقُلْ إنها العاطفة المسوَّرة بأشجار إسمنتية ذات سُطوح مبلَّطة بشَفَرات زجاجية..
وأنتَ تخطو على طريق «مدام بوفاري» سيَسْتَوْقِفُكَ مِن الأسئلة ما لنْ تَجِدَ عناء في الإجابة عنه، لكن مِن جماليات القراءة العاشقة والهاوية أن تَنتبه إلى الأسئلة التي تستحق عن جدارة أن تعترِضَ أنتَ طريقَها وتَسجنها في قبضة يديك كالفكرة العصية عن الانفلات..
البطلة الشقية إيما (مدام بوفاري لاحقا) تعيش بدايات شهوة الجنون وهي تتمرد على قلبها المسجون خلف قضبان العادات والتقاليد والأعراف تلك التي تَفرض عليها الوصاية وتُسَيٍّرُها لا تُخَيِّرُها..
تَتَوَسَّم إيما في الطبيب شارل بوفاري خَيْرَ رياح التغيير القادمة بنسائم الفرح، لكنها سرعان ما تصطدم بصخرة الواقع الْمُرّ، وتكتشف أن شارل بوفاري كان لها وَهْما لا حُلما، مع أنها كانت تَبيت تحلم بذاك الفارس الذي يخفف عنها حياة ريفية ينقصها شيء مِن الملح أو شيء مِن السُّكَّر..
«والواقع أن إيما كانت تعتقد قبل الزواج أنها قد وقَعَتْ في الحُبّ. فلما لم تَحصل على ما كانت تخاله مُرَتَّبا على هذا الحُبّ من سعادة، تَوَهَّمَتْ أنها كانت على خطإ، وأخذت تُسائِل نفسَها عما تعبيه عبارات النشوة والعاطفة والهيام التي كانت تقرأها في الكتب فتُبهِرها»[غوستاف فلوبير، مدام بوفاري، ترجمة: محمد مندور].
غربة إيما في قفص الزواج تَعْبُر بها بحيرةَ الشوق إلى الأيدي الخشِنة التي تَعبث بها عبثَ كُرَةٍ يَتِمُّ ركلها ركلا بعد تسجيل أهداف مميتة في مرمى الأنوثة الباكية على حظها العاثر..
«ليون» و«رودولف» وسِواهما ما هُم سِوى نماذج للأصابع القَذِرَة التي فقأت عينَ الشرف وأعمت بوصلة الحكمة الحالفة ألا تَصمد عند هبوب ريح الرغبة العاتية..
لذلك ارتأَتْ إيما المشاكِسة مشاكَسَةً رقيقة أن تَقفز بقلبها مِن شرفة إلى أخرى علَّها تَحظى بوردة الحب تلك التي يَضوع عطرها ويَملأ المكان، لكنها نَفْسُ الإنسان، تِلك النفْس المعذَّبة والمعذِّبة لا تَستقر على حال..
الفشل الذريع يقف عند باب إيما وقفةَ أبي الهول، والمساء الشاحب يَنْتَعِل حذاءَ اليأس ويَمْضِي مُقْسِماً أن يَحملَ معه حقيبةَ امرأة أَدْمَتْها رحلةُ البحث عن شراب العاطفة الْمُسْكِر..
الزوج المتوفر شارل بوفاري لا يَرقى إلى مستوى طموح امرأة شَبِقَة القلب، ورغم تعلقه بها (شارل) فإنها لم تَغفر له أن يُقَصِّرَ في حق احتياجاتها العاطفية مِن رَجُل أرهقه الركض خلف مُزارِعي الريف البسطاء أولئك الذين لن يُرضي إيما ما يُدِرّونه على زوجها من مال مقابل ما يَسرقونه منها من أوقات كان سيَحلو لإيما أن تستمتع فيها بتغزل شارل بها..
إنه شارل بوفاري المغيَّب كليا بحجمه العاطفي، لذلك لم يَكُنْ يُكَلِّفها حضورُه عناء الانتباه إلى رجولته المطفأة هو الْمُلقي في يَمّ اللامبالاة بفستان أنوثتها المتفجرة:
«يَسمع الحشرجات، ويفحص البطون، ويرفع الثياب القذرة عن أجساد المعلولين، لكنه كان يَجد في كل مساء نارا مستعرة، ومائدة معدة، وأثاثا مريحا، وزوجة في أبدع زينة، تتضوع بأريج عِطر كان يحار في التكهن بمكانه: أهو قميصها، أم بشرتها؟!»[مدام بوفاري].
قلب إيما المعذَّب بخذلان الآخَر له يجرّه الزمن بشكل يُلْهِمُ الذُّلَّ كيف يُذِلُّه كما لم تُذَلَّ امرأة، وأشواق أنثى مذبوحة عند نافذة القسوة تسافر في ليل الحُبّ الهارب هروبَ ذَكَر القبيلة الوحيد..
هل كان شارل ليطير بقلب إيما إلى سماء الشِّعر الحالِم كما كان يفعل ليون الشاب المتعطش لنهر الحُبّ؟!
يقينا لا، ولهذا كانت إيما تَِجد في ليون الفياضة عاطفته ما لا تَجِده في شارل:
«كثيرا ما كانت ترجوه أن يُنشدها شعرا، فكان ليون يفعل بصوت متراخ كان يعنى بخفضه عند العبارات الغرامية» [مدام بوفاري].
بل أكثر من هذا فإن إيما كانت تَجِدُ عند ليون الوقت الذي يرَكع ببطله عند قدميها، أما زوجها شارل فكان ينهي كل حلقة من مسلسل العدو من مزرعة إلى أخرى بجلسات لعب الورق مع جاره إلى أن يتسلل إليه النوم، بينما يَترك قلب إيما يُعْدِم أشواقَه لتنبعث منها حرارة الحنين إلى ليون:
«كان ليون لا يلبث أن يمسك عن القراءة ليشير بإيماءة إلى النائمين، وإذ ذاك يشرعان في الحديث بخفوت، فكان هذا الحديث يبدو لها أعذب من أي حديث، لأن أحدا لم يكن يسمعه» [مدام بوفاري].
أما العشيق اللاحق (رودولف)، فكان يجاري إيما المشتهاة كتفاحة إلى أن تُسَلِّمَه مفاتيحَ جسدها ليتحكم بنشوة في لعبة القيادة، لكن مِن أين لها أن تَحصل على ضمانات كافية لتجديد الوعد بعدم خذلانها، فمتاهات العشق الممنوع سرعان ما ينجلي ليلها بصبح الزهد فيها:
كانت تقول له:«إذا دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل، فعليك أن تفكر في»، فإذا اعترف بأنه لم يفكر فيها، تدفق العتاب بسخاء، ثم ينتهي دائما بالكلمة الخالدة: «أتحبني»؟، فيجيب: «عجبا، بالطبع أحبك»،«أولم تحب سواي»؟، فكان يهتف ضاحكا: «أو تظنين أنك أخذتني بكرا»؟ وكانت إيما تبكي، فيسعى إلى تهدئتها مرصعا احتجاجاته بالفكاهات، فتقول: أوّاه، إنني أحبك! أحبك حتى إنني لا أقوى على العيش بدونك، فهل تدرك هذا؟ إنني لأتوق أحيانا إلى أن أراك ثانية، فتمزقها سورة الهوى، وأسائل نفسي: ترى أين هو؟ لعله يتحدث إلى نساء أخريات، يبتسمن له، فيقترب منهن، أوّاه! لا! ما من امرأة سواي تَروق لك، أليس كذلك؟ هناك من يَفُقْنَني جمالا، ولكنني أكثرهن حُبّا. إنني الأفضل هوى. أنا جاريتك! محظيتك! أنت مليكي، ومعبودي، أنت طيب! أنت جميل! أنت ذكي! أنت قوي!» [مدام بوفاري].
المتهور رودولف كان ناجحا في أن يُعَلِّمَ إيما درس الزهد فيها ما أن تنطفئ جذوة المتعة المتسللة من نافذة الخيانة الزوجية، فإذا بلغَ مبتغاه منها تركَها مُعَلَّقة على عمود الهجر مثل تينة شهية جَفَّ حليب الرغبة فيها:
«أخذَتْ تَفقد رواءها شيئا فشيئا، كغلالة انزاحَتْ عن الشهوة فأظهرتها عارية في استرسالها الأبدي الرتيب» [مدام بوفاري].
النزِقُ رودولف لم يَكن قِدِّيسا يعتكف في معبده بعيدا عن عطرهن وشموعهن المتوهجة رغبة فيه، لذلك كانت المرأة لا تخرج في عينيه عن أداة تُطفئ شبَقَه قبل أن يلقي بها في أقرب سَلّة مُهْمَلات:
«لكثرة ما سمع هذه العبارات تُغمغِم بها شفاة العاهرات وبائعات الهوى، لم يؤمن كثيرا بإخلاص إيما» [مدام بوفاري].
وهنا تحديدا يَتفجر ينبوع الواقعية، فإذا بكاتبنا غوستاف فلوبير يَضع بين أيدينا حياة صغيرة تَقول بصريح العبارة ما تَعجز عنه الإشارة. إنها لعنة السقوط في حفرة الألم الْمُزْمِن ذاك المترتب عن مُتعة عابرة..
صاحبنا غوستاف فلوبير يَغوص في أعماق النفس الإنسانية المتربصة ببطلته إيما قبل أن تَقذف بها في الهاوية من شرفة الرغبات التي تَجرفها في اتجاه السقوط سقوط امرأة مبتذَلة غانية..
كأس الحُبّ المتوحش تمتلئ بخمر خبيثة تُصيب المرأة الشقية بمقدمات الزهايمر التي يسقط عندها جدار كل فضيلة، ومن ثمة تَغوص البطلة في بحر اللذة الممنوعة تلك التي يَذوب فيها قُطب المزايا الفُضْلَى المتجمِّد..
غوستاف فلوبير يستقرئ مصير البطلة الآيلة للرحيل ليقف عند معاني التمرد والعناد والمغامرة في زمن لا يُشَجِّع على المكابرة من أجل إعلاء صوت القِيَم..
الحُب في زمن ارتفاع صوت الرذيلة تُصَيِّرُه ظروف الجريمة العاطفية حالةَ غيبوبة تَقود البطلة المحلوبة (الْحَلْب إحساسا) على جسر الرغبة المخدِّرة التي تَقُصُّ ضفيرَتَيْ العقل والمنطق..
هذا جبروت امرأة عند رصيفه تَسقط حكمة الرجُل الهارب من جحيم حياة ضربها الجفاف ضربة تسونامي، لذلك كان لا يَجِدُ لرغباته الجامحة لسانَ صدقٍ يَعرف كيف تُنطَقُ كلمةُ «لا».. إنه ليون:
«لم يجرؤ على أن يَسألها، ولكنه كان إذ يرى فنونها البارعة لا يملك إلا أن يشعر بأنها ولابد قد خاضت كل تجربة من تجارب الألم واللذة! وما كان يَفتنه من قبل بات يُخيفه الآن بعض الشيء، فضلا عن أنه بات يتمرد على ما كان يزداد كل يوم ظهورا، من انطوائه على شخصيتها أصبح يَنقم على إيما بسبب هذه الغلبة المستمرة عليه، بل إنه راح يجاهد ليَكُفّ عن حبها، ولكنه كان لا يلبث إذا سمع صريف حذاءيها أن يتحول إلى جبان هياب كمدمني الخمر إذا ما رأوا شرابا قويا، والحق أنها لم تهن في إضفاء كل ألوان الاهتمام عليه، من أطايب الغذاء إلى خلاعة الرداء، إلى النظرات المستضعفة المتذللة، وكانت تدس ورودا من أيونفيل بين ثدييها لتلقيها في وجهه» [مدام بوفاري].
ومن ليون إلى العشاق الْجُدُد، كانت رحلة البحث عن الحُبّ الخالص تُقَيِّدُ قدمَيْ شارل الضائعة روحه في فوضى التمزق، لكنه أحبّ إيما بصدق رغم جهله بفن الحفاظ على الحب قبل أن تَأكله الرتابةُ..
إيما المتهورة بإحساسها لم تكن راضية عن حياتها مع شارل، لذلك بالغت في القفز من نافذة الرغبة باحثة عن شيء من اللذة المهرَّبة لإطفاء نار جسدها التَّوَّاق إلى قلب يستوعب حمى العشق وقصائدَ الاحتراق..
شارل المسكين أرهقَتْه إيما بالخيانة والنكران، وكذلك أنهكت جيبَه بالديون هي الحريصة على أن تُهدي عشاقها الغالي من الهدايا، إلى أن بدأ المطالبون بتسديد الديون في مطاردتها بعد انطفاء أضواء رغبتهم فيها، فلم تَجْدْ سوى أن تَقتل نفسها بتناول الزرنيخ كما يَفعل مَن يرغب في التخلص من فأر..
أما شارل، فلم يكن ليفلح في الهروب من معطف الماضي، بكى بحرقة لرحيل إيما، ورأى أن يتوج جسدها الميت بثوب العرس محتفيا بجنازتها:
«احتبس نفسه في غرفة العيادة، وتناول ريشة الكتابة، وبعد أن بكى فترة، كتب: أرغب في أن تدفن في ثوب عرسها، وحذاءين أبيضين، وطاقة ورد، وأن ينشر شعرها على كتفيها» [مدام بوفاري].
لم يكن شارل ليَتَخَلَّص بسهولة مِن ذكرى زوجته، ورغم إفلاسه بسبب ديونها، فإنه آثر أن يُكَرِّمَها بطقوس دفنٍ تُنهكه أكثر فأكثر بالديون:
«وصلت مدام بوفاري الأم مع مطلع النهار، وما أن احتضنها شارل حتى انفجر بسيل جديد من الدموع» [مدام بوفاري].
شيء من كل هذه الدموع كان في إمكان شارل أن يُترجمَه بلغة الحُبّ لزوجته إيما الزاهدة في حياته الرتيبة، فلا شيء كان سيدفع إيما إلى البحث عن ظلال رِجال سِوى الوقت الذي استخسَره شارل فيها، فليتها كانت قطعة الورق التي كان يقتل بها الوقت لَعٍباً، بينما كانت روح زوجته تتشظى وتتلظى بحثا عن أنفاس تُعيد إلى أنوثتها تاجَ الملِكات..
إنه الحُبّ الضائع!
ولا غرابة أن يُصَيِّرَ غوستاف فلوبير هذا الحُبّ الحكمةَ الأخيرة في الحياة..
بقلم: سعاد درير
copy short url   نسخ
27/01/2019
2922