+ A
A -
مُتَعَطِّش قلبُ الْمُحِبّ! متعطش هو لمن يَحلب غيمة الإحساس لتُمطر سماء الوجدان كما لم تُمطِر من قبل! لِنَقُلْ إنه يوم الغزَل، ولْنُلَبِّ دعوةَ صينية شاي الحُبّ تلك التي تنتظرنا في خيمة صاحِبنا العباس بن الأحنف..
لكل شاعر قصة، وبداية الحكاية في زمن العباس بن الأحنف مَوَّال دمعٍ مُوَشَّى بحبر العين ولهفة القلب المصلوبة قِطَعه على أشجار الانتظار وهو يُمَنِّي الروح بموعد مع عينيها.. لكن مِن أين للشاعر بعينيها هو الهائم بعينيها؟!
«أقول لها ودمع العين يجري
سبيل الحق ليس به خفاءُ
إذا كان التعتب مِن خليلٍ
لموجِدَةٍ فليس له بقاءُ
ولكن إن تجنى الذنبَ عمداً
أزالَ الودَّ وانقطع الرجاءُ» [العباس بن الأحنف]. أخبار بحر مشاعر العباس الشاعر تَدلّك على فتاته «فوز»، ومن تكون «فوز» هذه غير جارته في شارع الحُبّ، ويا لها مِن محظوظة هذه الـ«فوز» التي ملكَتْ منه نوافذ الروح والقلب!
«أبكي إذا سخطَتْ حتى إذا رضيتْ
بكيتُ عند الرضا من خَشْيَة الغضب
أتوب من سُخطها خوفا إذا سخطَتْ
فإن سخطْتُ تمادَتْ ثم لم تَتُبِ
فالحزن إن سخطتْ والخوف إن رضيَتْ
أن لا يتم الرضا فالقلبُ في تَعَبِ» [العباس بن الأحنف].
إنه إحساس الشاعر المتمدد على حصيرة الوَلَه هو الطالب لرضا مولاته مهما جارَ زمانها عليه، لكنه في كل مرة يشتعل تحت لفح شمس الهوى الحارقة، بينما روح فتاته المراودة له مارقة..
أَقُلْنا مارقة؟!
مارقة هي بالفِعل، لكن لا توبة لمن يشعر بروحها تَلتحم بروحه الحالفة ألا تفارق روحَها، غير أن غياب «فوز» يضاعف حجم الغصة في حلق الشاعر المنتصر دائما لصوت المشاعر..
فلماذا يستمر الشاعر في الإخلاص لتوأم روحه كما يقنعنا وثمة قلب ينكسر عند رصيف صَدِّها له؟!
لماذا كلما تَوَدَّد هو تمنَّعَتْ هي؟!
لماذا يسقط وقار رجولته عند قدميْ دلالها هي الهاربة بأشواقه إليها؟!
لماذا يشتعل المحِبُّون خلف نافذة الصبابة الموصَدة ويكتمون لوعتهم حدّ أن تتمرغ كينونتهم في وحل الجفاء وتَصَّنُّع اللامبالاة ممن يُعَلِّمْنَهم كيف يُرددون الآهات؟!
قلبُ الشاعر دليله، وقلبه إلى من ملكَتْه يَميل..
«فَلا ضَحِكَ الواشونَ يا فَوزُ بَعدَكُم
وَلا جَمَدَت عَينٌ جَرَت بِسُكوبِ
وَإِنّي لَأَستَهدي الرِياحَ سَلامَكُم
إِذا أَقبَلَت مِن نَحوِكُم بِهُبوبِ» [العباس بن الأحنف].
يشتعل الشاعر ويذوب على صفيحة المشاعِر كمُكَعَّب زبدة يَضرب موعدا لِفَمٍ هارب منه الرغيف.. وبين الهجر واللقاء، يحفظ القلبُ المكلوم درس الشقاء.. إنه الهجر، وما الهجر غير ذاك الليل الطويل الذي يُرَبِّي العُشَّاق على دين الصَّبر..
«يا هجرُ كُفَّ عن الهوى ودَعِ الهوى
للعاشقين يَطيبُ يا هَجْرُ
ماذا تريد من الذين قُلوبهم
مرضى وحَشْو قلوبهم جَمْرُ
وسوابق العبرات فوق خدودهم
دِرَرٌ تَفيض كأنها القَطْرُ
صرعى على جسر الهوى لشقائهم
يَتَصَبَّرون وما بِهم صَبْرُ
لم يَشربوا غير الهوى فكأنهم
بِهِمُ لِشِدَّةِ ما لَقُوا سُكْرُ» [العباس بن الأحنف].
يتقلص إحساس الأنثى الملهِمة بشاعرها النبيل، وبقدر ما يتضاءل حنينها إليه يزداد صَدُّها له، ليس من المهم أن تَعرف هي كم تحبه مع أنها لا تتجاوب معه، لكن من المهم أن يزِنَ هو شغفَه وتعلقه في ميزان قلبها، نعم، هو ذاك قلبها الذي يَكفر بلغة الاعتراف..
«فَإِن ساءَكُم ما بي مِنَ الضُرِّ فَارحَموا
وَإِن سَرَّكُم هَذا العَذابُ فَعَذِّبوا» [العباس بن الأحنف].
في عينَيْ العباس بن الأحنف، لا امرأة سِوى فوز، ولا حُسنَ ولا جمال يأسر غير ذلك الذي يراه هو المعذَّب بحبه في مرآة عشقه لامرأة تَعرف مِن أين تؤكَل كتف الهوى..
«أزار أبا الفضل الخيالُ المؤرِّقُ
لفوزٍ؟ نعم والطيف مما يشوِّقُ
تنامُ عيون الكاشحين قريرةً
وعيني بأصنافِ البُكَا تتدفَّقُ» [العباس بن الأحنف].
هي امرأة لا تُنسى، فكيف لقلبها أن ينساه شاعر خبر أنفاقَ الهوى ومصيدةَ الحُسّاد وحُفَرَ الوُشاة؟! لكنها «فوز»، «فوز» معذبته التي لا يدري هو المسكين الحائر إن كانت قد طالتها يدُه أم ظلت تَعِدُه بنشيد النصر البعيد وهي ترفرف وتدلي عنقها من أعلى شجرة الحُبّ..
«ألا ليتَ شعري والفؤاد عميدُ
هوايَ قريب أم هوايَ بعيدُ
وفي القرب تعذيب وفي البعد حسرة
وما منهما إلا علَيَّ شديد
معذبتي، فيم الصدود وما الذي
أفَنِّدُ حتى لا يَكون صُدُودُ» [العباس بن الأحنف].
أكثر ما اشتهر به العباس بن الأحنف هو إخلاصه للحُبّ العذري العفيف، وأكثر ما يُلازم غَزَلَه هو صفة الرِّقَّة التي تجعل حروفه تنحني إعجابا بخالقها الشاعر، فهكذا يَكون الخلق الفني، وهكذا تتحدث الْمَلَكَةُ عن نفسها حين لا يَخون الشاعرَ الإحساس ولا يردِّد ما تَقوله عامة الناس..
إنه الحُبّ، يا أسيادَ الحُبّ!
وحين يَنظم العباس بن الأحنف في الحُبّ، فصدِّقوا أن صاحبَنا سيُتحف الروح، ولن يترك قطعةً من القلب تَروح.. فلا شيء كتب عنه العباس بن الأحنف إلا وقد جرَّبَه وعاشَه وأبدع فيه وتألَّق رغم أن ركوب أمواج الحُبّ العذري يجعل حشاشة القلب تَصرخ وتُعلن احتراقها وهي تتلظى ولا تتشظى..
«أَلا أَيُّها الباكونَ مِن أَلَمِ الهَوى
أَظُنُّكُمُ أُدرِكتُمُ بِذَنوبِ
تَعالَوا نُدافِع جُهدَنا عَن قُلوبِنا
فَيوشِكُ أَن نَبقى بِغَيرِ قُلوبِ» [العباس بن الأحنف].
غزلُ العباس بن الأحنف نموذج يُوصَف لطُلاَّب أدب العشق الخالص الذي تظلله غيمة نقاء أَبْعَد ما تَكون عن رغبة جامحة في السباحة في محيط الفُجور..
مِن هنا تبقى تجربة العباس بن الأحنف تجربةً صادقة تَقودنا إلى مشارف مدينة الحُبّ العفيف الممهور بلغة العشق، لنقل إنه العِشق الصافي ذاك المنسِيّ في زمن الفِسق..
«يا أهل فوز أمالي عندكم فرج
ويلي ولا راحةٌ من طول تعزيزي
يا أهل فوز ادفنوني وهي جامحة
حتى إذا يئسوا قالوا لها سيري» [العباس بن الأحنف].
صاحبنا العباس بن الأحنف يقلِّم أضافر القَلم، بعد أن يَأمر لصاحبه بحَمّام فَم، كل هذا ليجعل الذات العاشقة بإلحاحٍ تترفع عن تُرَّهات الكلِمات..
خُذوا لِيَ مِنها جُرعَةً في زُجاجَةٍ
أَلا إِنَّها لَو تَعلَمونَ طَبيبي
وَسيروا فَإِن أَدرَكتُمُ بي حُشاشَةً
لَها في نَواحي الصدرِ وَجسُ دَبيبِ
فَرُشّوا عَلى وَجهي أُفِق مِن بَليَّتي
يُثيبُكُمُ ذو العَرشِ خَيرُ مُثيبِ«[العباس بن الأحنف].
كلمات العباس بن الأحنف يَغرفها بتمهل ودراية من خابية السِّحر حُبّاً ارتكازا على تجربة واقعية لم يَخُنْ فيها الشاعر روحَه، لذلك اقتصر هواه على امرأة واحدة لم يتعداها إلى سواها، لا لشيء، سِوى ليقولَ للتاريخ وصُنّاعِه إن القلبَ إذا أحبَّ اكتفى، اكتفى بواحدة، وإن المرأة إذا تسللت إلى قلبكَ ملأتْهُ وشغلتْه عن التفكير في سِواها..
«جَرى السَيلُ فَاِستَبكانِيَ السَيلُ إِذ جَرى
وَفاضَت لَهُ مِن مُقلَتَيَّ سُروبُ
وَما ذاكَ إِلا حَيثُ أَيقَنتُ أَنَّهُ
يَمُرُّ بِوادٍ أَنتِ مِنهُ قَريبُ» [العباس بن الأحنف].
ورطة الحُبّ ما بعدها ورطة، ولعنته تسقط من أعلى سقف الحرية لتزج بالقلب في سجن العبودية، فكيف لك ألا تُطيع قلبا قيَّدَتْهُ كَفُّ الهوى؟!
«أيا نفْسَ مَن نَفْسي إليه مَشوقَة
ومَن قد بَرى جسمي هواهُ وما شَعَرْ
ومَن هو محجوبٌ كَلِفْتُ بحبِّه
صحيحٌ مريضُ المقلتَيْن إذا نظر»[العباس بن الأحنف].
الحب ميثاق وعهد ومسؤولية وحياة، لذلك قليل على الشاعر التائه في غابات غربته بعيدا عن أنفاس محبوبته «فوز» أن يمجد العشق ويثمن العاشق ويُصَيِّرَ الطبيعي حُلمَ عاشق ويُصَيِّرَ المألوفَ مؤسَّسةَ عشقٍ ويُصَيِّرَ ربّات الهوى آلِهَةً تُعْبَدُ، كيف لا وهي تؤسس الإيمان الراسخ للقلب بالقلب، وتلك لغة القلوب لا يفقهها غير الشاعِر بعظمة الحُبّ..
«فيا عجبا للعين! أما رقادها
فعانٍ، وأما الدمع منها فمُطْلَقُ
وما الناس إلا العاشقون ذَوُوا الهوى
ولا خير في مَنْ لا يُحِبُّ ويَعشقُ» [العباس بن الأحنف].
قلبُ المحِبّ تَكون له فتاتُه المعادِلَ لقدِّيسة كبيرة، قِدِّيسة حُلوة تُعْشَق وقَلَّما يَحلو لها هي أن تَعشَق، تَسبح في محيطات الذات مِن العين إلى العين، ولا تُغني أرضها عن سَماء تُوهِمُكَ هي الأنثى المشتهاة برغبة في أن تحلق فيها معك.. لكن لا طيور لمن تنادي..
ساكنة قلب الشاعر العباس بن الأحنف انتقى لها من الأسماء اسمَ «فوز»، ولْنَنْظُرْ هنا إلى نقاء معدن الشاعر وصفائه، إذ استكثر العباس على حبيبته أن يشاركَه فيها الآخَرون الذين ليس من الغريب أن تُلهمَهم تجربته..
«أَزَينَ نِساءِ العالَمينَ أَجيبي
دُعاءَ مَشوقٍ بِالعِراقِ غَريبِ
كَتَبتُ كِتابي ما أُقيمُ حُروفَهُ
لِشِدَّةِ إِعوالي وَطولِ نَحيبي
أَخُطُّ وَأَمحو ما خَطَطتُ بِعَبرَةٍ
تَسُحُّ عَلى القُرطاسِ سَحَّ غُروبِ
أَيا فَوزُ لَو أَبصَرتِني ما عَرَفتِني
لِطولِ شُجوني بَعدَكُم وَشُحوبي
وَأَنتِ مِنَ الدُنيا نَصيبي فَإِن أَمُت
فَلَيتَكِ مِن حورِ الجِنانِ نَصيبي
سَأَحفَظُ ما قَد كانَ بَيني وَبَينَكُم
وَأَرعاكُمُ في مَشهَدي وَمَغيبي»[العباس بن الأحنف].
لن نبحث يقينا عن سبب يُذْكَر لاحتفاظ الشاعر باسم «فوز» لحبيبته، فيكفي، يَكفي أنها فازت بقلبه وفاز هو بقلبها، وهنا تكمن شطارة المرأة وحذقها، إذ لم تسمح لعينيه (ولا لقلبه) أن يَفِرّا أو يقفزا أو يطيرا إلى طيف امرأة ثالثة قد يتهيأ لها أن تشاكس عينَيْ الشاعر أو تدغدغ إحساسَه قبل أن تستدرجَه إلى شواطئها، شواطئ الأنوثة التي تَنفي تحت كثبان رمالها قميصَ الرجولة الهارب منه الحذاء..
إنه الذكاء العاطفي يَقول كلمتَه وهو يجري جريان النهر المستسلِم لغواية الاستلقاء بين ضِفَّتَيْ قلبين يَتَدَلَّى قريبا منهما بَلَحُ الشوق ذاك الذي يتهادى ما بين صَدّ ووِدّ، بَلَح أَثْقَلَ نخيلَ روحين هائمتين، روحين تُشَرِّقُهما رياح الهوى وتُغَرٍّبُ، فإذا بالقلبِ لا يَعجَبُ!
بقلم: سعاد درير
copy short url   نسخ
02/03/2019
3274