+ A
A -
جَرِّب، جَرِّبْ يا صديقي أن يَغيب عنك الامتلاء العاطفي والروحي!
لستُ أُحَدِّثُكَ يا صديقي عن شريط سينمائي هارب من عجائب بلاد بوليوود، لكن لِنَقُلْ إنها مأساة أجيال فقدَتْ لذة الانتصار للحياة واستسلَمَتْ لحفرة لا تَشُكّ أنتَ لوهلة في أنها لَنْ تَستدرجها إلى باب جهنم..
إنه الموت الرحيم كما تُصور لليائسين من الحياة عقولُهم الهارب منها ضوء الرغبة في الحياة!
عن الخواء الروحي، يَلِيه الخواء العاطفي، يَحكي لنا تاريخ النجومية والشهرة ما جَنَتْهُ بطلةُ سِباق الجَمال والفن يولاندا جيجليوتي Iolanda Gigliotti، نَعَم، إنها يولاندا الشهيرة بِاسْم «داليدا Dalida»..
حياة مليئة بالأسرار والهزيمة كان مِن الطبيعي أن تَقُودَ الإيطالية الأصول يولاندا جيليوتي إلى حَلَبة الموت رغم أنها نشأَتْ في بيئة مصرية بعيدة كُلّ البُعد عن سِباق الموت ذاك الذي يَتقدم فيه اليابانيون ومَنْ جاوَرَهُم في لعنة التخلص مِن قضبان الحياة بالطريقة نفسها التي تُزهِق غالبًا رُوحَ فأر أو صرصار..
لُغز دفين لا يَقوى عقل الإنسان المسكين على أن يحُلّه كلما بسطَ أوراق حياته على مائدة المحاسَبة، أو لنقل المعايَنة، بحثًا عن «جُوكِير» الحظ الذي يَتبخَّر بشكل فُجائي ويترك رٍقاب الخَلق مُعَلَّقة على عمود الرفض..
والسؤال: هل يَكون الرفض للحياة إعلانًا لفشل الإنسان في رحلة صُموده تلك التي لا تستمر طويلاً قُبالَةَ مسلسل التحديات التي تَتَجَرَّع فيها الذات ما يَكفي مِن خيبات؟!
أم يأتي الرفض تتويجًا لإخفاق الروح في التعايش مع المقالِب والجروح بعيدًا عن حَبل الإيمان الذي يَراك ولا تَراه؟!
مقالِب الزمن وجُروح عَبيدِه أقوى مِن أن يَصمد قُدَّامَها الإنسان الفارغ قلبُه، وما يولاندا سِوى واحدة مِنْ كَمٍّ مِن القلوب الممتثلة لنداء شيطانها الأَمَّار بتعذيبها ما أن يُغلق القلب نوافذَه وأبوابه تِلك التي ما كان مِن العَدل ولا مِن الحكمة أن تُوصَدَ دون نُور الله ورحمته التي وسعَتْ كُلّ شيء..
هل كانت يولاندا مَثَلاً لِتُفَصِّلَ نهايةَ حياتها على مَقاس الموت الرحيم لو كان قلبُها يَسبح في محيط الإيمان؟!
هل كانت يولاندا لتختار ثوبَ الموت رافضةً ثوبَ الحياة لو أن قلبَها ظلّ يَخفق لِرَجُل واحد يُذكَر مِن مجموع أولئك الرِّجال الذين لم تُخْلِص لها قلوبهم بإقدامهم جميعا على تسديد رصاصات تُعيد يولاندا في كل مرة إلى حالة الفراغ العاطفي التي تفاقَمَتْ عندها أكثر فأكثر في ظِلّ غياب الامتلاء الروحي؟!
نَعم، إنه الامتلاء الروحي.. إنه النص الغائب عن حياة مَن لا يَتَوانَوْنَ عن القفز مِن أعلى نافذة الحياة في لحظةِ يأس قاتلة، لحظة يأس من الحياة..
داليدا لم يَكُنْ يَنقصها المال ولا الجَمال ولا الشهرة والحظ الغائب عن الملايين لتَلوي عنقَ روحها وتفضح رغبتها في الكفر بحياة ما عادت تُشكل عندها فرصة للنجاة من فراغها ووساوسها التي قادتها إلى منعرجات طريق الموت..
إشارات رَبَّانية كان مِن الطبيعي أن تُرَبِّينا على أخلاق الصبر والامتثال للذِّكر، يكفي أن نَذكر قوله عزّ وجلّ: «ألا بِذِكر الله تَطْمَئِنّ القلوب»، وقوله جلّ شأنه: «مَن أَعْرَضَ عن ذِكري فإن له معيشة ضنكًا» لتَغْتَسِل أرواحنا بماء اليقين في الله ولنَمتثل مُذعِنين لواجباتنا في مَدْرَسَة الْقَدَر..
مِن رأفة الرحمن الرحيم بنا أن رَبَطَ قلوبنا بمحبة الله وجعل لنا في أزواجنا «قرة أعين» لنَسكن إليهم ويَسكنوا إلينا، وهنا يَتحقق ما يعجز عن تحقيقه الفارغ قلبُه: إنه الامتلاء الروحي الذي نَبلغه بقَدْر تَعَلُّقنا بحبل الله، وهو كذلك الامتلاء العاطفي الذي يَشغل فراغَ القلب بعيدًا عن موجة الحُبّ التي تُعيده إلى سيرة توازنه الأولى في ظل وجود زوج تَزرع أنفاسُه سنابل الإيمان بالحياة والثقة في الاختبار الإلهي..
وما كانت حاجةُ الرَّجُل إلى زوجة حنون إلا تصريحًا بحاجة المرأة إلى زوج يَمْتَصّ كـ «الاسفنجة» إحساسَها بالتعب ويجدد دماءَ رغبتها في الحياة تحت سقف يجمعهما لتلذّ لهما الحياة بشقائها ومِلحها و«حارِّها» ومُرِّها..
هذه التدفئة الروحية والعاطفية بين زوج يسكن إلى زوجة هي أكثر ما يغيب عن حياة المشاهير والفنانين الذي يَقُصُّون ضفيرةَ الحياة بمقَصّ إحساسهم بالْمَلل والسخط على وضعيتهم..
عدد أكبر مِن أن يُحْصَى مِن الأغنيات هي تلك التي ترجمتها يولاندا جيجليوتي بإحساسها عبرَ شتى اللغات، ونجاح وبَريق يَخطفان الأنظار ويسجلان المزيد من المعجبين في قوائم الانتظار، لكن لِنَقُلْ إن حياتها الشخصية لم تَنْأَ عن محتوى كابوس يُفسد على الوسادة الناعمة حُلمها الصغير في عناقك حدّ أن تُخَدِّرَك..
في ظروف لا تشجع يولاندا جيجليوتي على التحدي والعناد، وفي بيئة منغلقة، راودَت الأحلام أنثى صبية كانَتها يولاندا، بدأ الحلم يُزهِر ما أن نجحَتْ يولاندا في مسابقة ملِكة الجَمال، ثم سرعان ما أغرَتْها أضواء السينما بحثًا عن دور باءَ بالفشل..
يشاء الْقَدَر أن يَضَعَ في طريق يولاندا مَن يُعيد إليها الثقة في صوتها قبل أن يُدَرِّبَها على الغناء، ثم سرعان ما تتسلق نخلةَ الشهرة، تساعدها في ذلك مؤهلاتها الطبيعية من قدّ ورشاقة وشقرة شَعر، فإذا بصُنَّاع المجد يطمعون في صوتها ويأخذون بيدها لتَصعد سُلَّمَ الشهرة..
يولاندا أحبت «لوسيان موريس Lucien Morise»، لكنها بعد وقت مرّ على زواجها به وجدَتْ قلبها يَهْفو إلى سواه، فانفصلَتْ عن الأول وعاشت قصة حُبّ جديدة.. فهل سيَسمح بذلك بطلُ قصة حبِّها الأول؟! طبعًا لا.. لكن مهلاً، لِنَقُلْ إن لوسيان موريس حاول أن يَتَأَقْلَمَ مع واقع الفراق، وأكثر من هذا جَرَّبَ وصفة المرأة الثانية في حياته لينسى المرأة الأولى.. دون جدوى.. لقد اختصر الطريقَ هو الآخَر إلى الآخِرة، وأنهى معاناته برصاصة عجَّلَتْ بموته..
لنقف الآن عند «لويجي تينكو Luiji Tenco»، ولنقل إن لويجي تينكو عنوان قصة حُبّ تالية، لكن ملهِمتَه يولاندا لم تَقوَ على أن تُعَبِّدَ له الطريقَ إلى الشهرة هو الذي كان مغنيا مبتدئا.. فماذا كان رَدّ فِعله؟! لا شيء سِوى أنه تَخَلَّصَ مِن روحه وتَرك جسدَه الغارق في الدماء مفاجأة غير سارة في انتظار يولاندا..
مَن كان يتصور أن سيدة الغناء عن الحُبّ لا تقوى على الحياة دون حُبّ؟!
من كان يُصَدِّق أن صومعة الحبّ لا يرتفع صوتها في سماء الحُبّ ولم تَضمن لنفسها شيئًا منه؟!
من كان يُصَدِّق أن يولاندا ستُعلن استسلامها بطريقة الجُبَناء وهي تسدل ستار مسرح الحياة الذي حَصَدَتْ فيه البطولات والميداليات؟!
ابنة حي «شبرا» المصري تَطير كالصاروخ إلى عواصم المجد الفني، في مقدمتها باريس، لكنها تَسقط مِن أعلى أبراج الحظ والتمني، لتخيب اشتهاءات مَن واكبوا طلوع شمسها وما تَرَقَّبُوا ليلها الحالك..
رسالة يتيمة تَطير على جناح الفَقْد لتُبكي مُحِبِّي داليدا بعد أن غابَتْ داليدا: «الحياة لم تَعُد تُحْتَمَل.. سامحوني»! هذا آخِر ما خَطَّتْه بأناملها داليدا..
إنه مَشهَد واقعي مؤلم يَعصف بتوقعات صاحبه ذاك الذي يُسقِط حياته من حقيبة أحلامه الصغيرة ليُغلق نافذته على الدنيا دون مقدمات، لكن في المقابل ينتصب ثمة سؤال صعب فهمه صعوبة فهم الحياة:
منذ متى اكتشفت داليدا أن الحياة لم تَعد تحتمل؟! ومتى تأكد لها ذلك؟! وكم مرة توصلت هي إلى هذه الحقيقة الْمُرَّة؟!
فَمُ مغارة الحياة يُلقي مِن الحِمَم على الإنسان ما قد يَتَعَذَّر على فوهة بركان.. إنها حِمم المتاعِب التي تجُرّ الإنسان إلى حافة الانهيار في غياب أمطار الأمل التي قد تسمح للمرء بعملية اغتسال كنوع من التطهير النفسي.
انفصال الفنان عن واقعه قد يتطلب شيئًا من الوقت، إن الأمر أقرب ما يَكون إلى عملية انتظار ريثما يتم اختمار فكرة الرحيل تلك التي لا يختلف اثنان في أنها تُفضي إلى التهلكة، لكنه البُعد عن الإيمان ما يزيد في اتساع الفجوة بين قدميك وسطح الحياة..
بينك وبين ربِّك يمتد حبل هو نفسُه جسرُ النجاة الذي يُعفيك مِن تجرُّع خيبات وتحمل مرارات ما كان غيرك ليَسقط في مستنقعها لو أن حبلَ الحُبّ انقطع..
ما كان الله ليُحبك ويَحفظك ويُقَوي رغبتك في الحياة لو لم تُحِبَّه، مع أن المؤمن دائمًا قد يَطيب له عدم انقطاع أنفاس الحياة طمعًا في المزيد من التقرب إلى الله والمزيد من التَّذَلُّل له والبكاء خشوعًا بين يديه والمزيد من الرغبة في اجتياز امتحان الحياة الصعب على اعتبار أن العَبد المبتَلى هو مَن اختاره الله ليَضرب به المثل في قوة الإيمان والصمود في وجه الكروب والأحزان..
فهل بهذه الحماقة تتصرف في حياتك وتُلقي بنفسك من شرفة الاستسلام وكأنك تؤكد لمولاك بأنك تَعرف أكثر مما هو يَعرف؟!
هل تحمد الله على كل حال وتَتفانى في أن تُقَوّي إيمانك بالله أم تُلقي قلَمَك وأوراقك رافضًا اجتياز امتحان الحياة وكأنك بذلك ستضمن لروحك المارقة مقعدًا في الجنة؟!
كثيرة هي الدروس التي لا نَجِد حَرَجًا في تعلمها مِن قِصص مَن حاولوا مجادلة الذات الإلهية في سؤال الإرادة، إذ خُيِّلَ إليهم أن مِن حقهم إيقاف عقارب ساعة الحياة بمجرد إقدامهم على النفخ في شمعة الحياة بغضب رغبةً في إطفائها..
داليدا أو يولاندا ليست أكثر مِن نموذج نستحضره في هذا الصدد، فهي يقينًا سنستشف مِن مغامرتها الحياتية العِبرة من أن نَصمد لا أن نَنهزم، وأن نتحدى لا أن نَستسلم، وأن نمتلئ طاقة إيجابية لا أن نَفرغ كما تَفرغ بطارية..
لِنَبْحَثْ عن تُربة صالحة للحُبّ في قلوبنا، ولْنَغْرِسْ وُرود الحُبّ تِلك التي تَتَوَسَّم فينا أن نَكون رُحَماء بها، فلا مجال إلا لنَسقيها مِن عَرَقِنا الذي لا يَغلى عليها وهي الواعدة بالعِطر والندى..
لِنُحِبّ الحياة كما هي حتى تَستسيغنا الحياة كما نَحْنُ..
ولْيَكُنْ لنا في كُلّ يوم سَفَر ومحطات، على أن نَحفظ الجسر إلى مَنْ وَهَبَنا الحياة وإلى مَن هُمْ لنا الحياة..
آسِفة داليدا، خانَتْكِ أقراصُكِ الْمُهَدِّئَة، ونَسيتِ أن أَعَزّ ما يُطلَب للتَّغَلُّب على تَعَب الحياة هو أقراصُ الحُبّ لا غير..
بقلم: سعاد درير
copy short url   نسخ
06/03/2019
3743