+ A
A -
لا يقتصر القلق الفرنسي من الوضع في الجزائر على مستقبل المستعمرة الفرنسية الأهم في القارة الإفريقية فحسب بل إنه يشمل كذلك طريقة التعبير الجزائرية التي صدمت الكثيرين هنا في أوروبا وفي فرنسا تحديدا، لقد مثلت الجزائر بالنسبة لفرنسا أهم مستعمراتها التي كانت تسمى «الجزائر الفرنسية» والتي بقيت تابعة لها اقتصاديا وسياسيا لمدة طويلة ولا تزال الكثير من الأوساط الجزائرية اليوم تتهم النظام الحاكم بأنه امتداد للنفوذ الفرنسي في البلاد وممثل له.
لكن الخاصية الأبرز التي أثارت الكثير من الاهتمام في الأوساط الفرنسية وخاصة بين النخب هي تلك التي تتعلق بطريقة التعبير الجماهيرية عن مطالب المحتجين، لقد كانت المطالب سلمية بشكل لافت لم يسبق له مثيل في تاريخ الاحتجاجات الشعبية وهو يمثل إحياء لسنّة الربيع العربي الذي رأينا بداياته السلمية في مصر وسوريا وليبيا وتونس قبل أن تحوّله آلة القمع إلى بركة من الدماء.
لكنّ ما ضاعف من وقع الصدمة في سلمية الحراك الجزائري هو أنها تأتي متزامنة مع احتجاجات فرنسية مماثلة هي احتجاجات «السترات الصفراء» التي تطورت في الأيام الأخيرة إلى مواجهات دامية وإلى تخريب للمحلات التجارية والمرافق العمومية، كما تميزت الاحتجاجات الفرنسية بالعنف الأمني والقمع البوليسي الشديد بشكل لم تعهده الاحتجاجات الفرنسية من قبل.
لقد مثلت واجهات المحلات المحروقة والسيارات المتفحمة منظرا لم يألفه الزائرون ولا الفرنسيون أنفسهم منذ عهد كما أن القمع الأمني والتحيز الإعلامي لصالح النظام كانت العناصر التي فاقمت من الحنق الشعبي وأظهرت للفرنسيين واقعا جديدا.
تتأسس الصدمة على التقابل الصارخ بين سلوك النظام «الديمقراطي المتحضر» في بلد حقوق الإنسان والحريات فرنسا وكيفية التعامل مع المحتجين وبين تضامن قوات الشرطة والدرك مع المتظاهرين في الجزائر بطريقة سلمية ملفتة.
إن غياب العنف في الحراك الجزائري يمثل تأكيدا قاطعا على سلمية الشعوب العربية وعلى نبل طرقها في التعبير والاحتجاج وهو يفضح من جهة ثانية مسؤولية الأنظمة في الدفع بثورات الربيع نحو مستنقع العنف والفوضى من أجل تبرير الانقلاب عليها.
هذا المظهر الجديد ينسف بشكل كامل كل المقولات العنصرية والاستشراقية التي عملت جاهدة على إلصاق تهمة العنف والهمجية والقتل بالشعوب العربية المسلمة طوال عقود من الزمان، كما يطيح من جهة أخرى بكل أشكال المركزيات الثقافية التي تضع شعوبا فوق أخرى وتصنف أمما دون أخرى لأن مشهد الربيع العربي بالأمس والمشهد الجزائري اليوم يؤكدان العكس تماما.
بقلم: محمد هنيد
copy short url   نسخ
21/03/2019
2400