+ A
A -
مِن قلب بئر الطفولة السحيقة يستيقظ مارد الذكريات ليمتص الحلاوة مِمّا يعبر مِن الأوقات، صحيح، صَدِّقْ يا صديقي، فالوقت يَعبر عبور النهر الحالف ألا يَعود، وأنتَ المعذَّب تُقسِم أن تَستسلم لسلطة القيود..
لكن أحقا أنتَ مَن يَستسلم؟!
مِن المؤكَّد لا، فثمة طائر حزين باتَ يَجوب شوارع الليل قبل أن تَقَع يَدُه على شمعة لا يَنطفئ لها وهج، لا ينطفئ بقوة الرغبة في حَرْث حقول الضوء..
اليوم قررنا الرحيل إلى السويد، نَرحل لِنَحكي حكايةَ جدارٍ يُقاوم السقوط باستماتة، جدار يَكونُه رَجُلٌ مِن الناس، لكنه يختلف عنهم، يختلف عنهم في إرادته السارقة للأضواء الرافضة لغير دِين الاشتعال، يختلف عنهم في تَحَدِّيه الكاسر للجبال والقاهر لشياطين الْمُحال..
إنه الفنان برؤيته وعبقريته إنغمار بيرغمان Ingmar Bergman، هو المخرج السينمائي السويدي وكاتب السيناريوهات، بل لِنَقُل إنه صانع المجد السينمائي في زمن القسوة والعدَم، نظرا لكونه قد صَنَعَ الذوق والفُرجة والإبهار باعتباره مُخرجا أصرَّ بقوة على أن يَهرب مِن زمنه إلى الزمن الآتي..
لكن ما علاقة إينغمار بيرغمان بالمقدمة الطللية عن الطفولة القاسية والأيام الْمُرَّة والحارّة حرارة فلفل أسود؟!
لِكُلّ طفولة قصة، ولا غرابة أن يَحمل إينغمار بيرغمان طفولتَه المتعَبة إلى استوديوهات التصوير ليَجعلَ منها عند جمهوره مَحافِل لأبطال أفلامه التعساء.. لقد جسَّد بمكرٍ هو الفنان متاهات الإنسان الذي كانه أيام الطفولة تلك التي لا يُغادرها إلا ليَعود إليها ناهلا مِن مَعينها الذي لا يَنضب ولا يَجفّ له حوض..
وقصة طفولةِ إينغمار بيرغمان تَعود فُصولها إلى تاريخ التعذيب الذي طال الصغير إينغمار بيرغمان «بل حتى وهو فتى» مِن جَرّاء نشأته في بيت أبيه القِسّ الذي حرص على أن يَجتهد في أن يربي ابنه على ما يُمليه واقع الحياة الدينية بين أسوار الكنيسة..
لكن ماذا عن ميول واختيارات الصغير إينغمار بيرغمان؟!
لقد ثابر هو الصغير ليَتخذ لنفسه مسارا آخَر يُعارض معتقدات والده، كان مسارا يَدفع الصغير إلى أن يَمتثل لقوة رغباته الشخصية في أن يُخالف شريعة الأب الذي لم يَكن يهمّه إلا أن يُضْرَب بأبنائه المثل في الالتزام الديني والتَّحَلّي بما تُبيحُه الكنيسة والتَّخَلِّي عما تَضع هي بينها وبينه حَدّا..
فماذا جنى الصغير إينغمار بيرغمان لِيُعاقَب بجنون القمع المزدوج الذي مورِسَ عليه؟!
لم يَكن ذنبُه سوى أنه طفل كان مِن الواجب عليه أن يَرضع من حليب السلطة الأبوية، كما كان عليه ألا يَخلع جُبَّة التوجهات الكنسية التي كانت أكبر من مقاسه، لذلك لم يَنتبه الآخرون إلى إمكانية تعثره فيها وسقوطه سقوطا مُدَوّيا..
وأبشع مظاهر هذا السقوط كان لجوء أبيه القسّ اضطراريا إلى حبسه تحت ستار الظلام كما لو أنه ديك مَنْتُوف أو فأر تتوعَّدُه مصيدة، حبسه بالساعات في سكون الليل خلف الأبواب الموصَدة، لكن لا دِين لمن تُنادي..
في هذه البيئة الاجتماعية التي تَغلي كل الغليان عاش إينغمار بيرغمان حياة تُشقي الإنسان، حياة لن نَجِدَ لها أي عنوان أكثر دلالة وإيحاء من «طفولة مُعَذَّبَة»..
في أرشيف ذاكرته النشيطة نشاطَ نملةٍ ما يُوقظ العزم والهمّة، يَكفي أنه أكثر أبناء جيله «والأجيال السابقة واللاحقة» تأثيرا في صُنّاع السينما على امتداد التاريخ، فهو على مدى سنوات عمره الطويلة يَرسم لوحة تجربة سينمائية لم تتكرر، وألقت بظلالها على عدد ممن شكلوا لاحقا تلاميذ إينغمار بيرغمان..
هو صاحب رؤية إخراجية ذات بعد فلسفي يَقوم على السباحة النفسية في محيط التأمل، فكاتب السيناريوهات إينغمار بيرغمان يَغوص عميقا في الذات، في الأنا الإنسانية، جدلية الموت والحياة، مطاردة قوى الشر، الإيمان، القَدَر، الوجود، الجنون، الحروب النفسية..
وكما خصص إينغمار بيرغمان الكثير مِن الوقت للمرأة في مُنْجَزِه السينمائي، فإن حضور المرأة في حياته بشكل شخصي ساعده، لاسيما وأن هناك زوجة جاءت تحمل الرتبة الأخيرة في ترتيب زوجاته قد خدمتَهُ على المستويين الخاص والعام، فإلى جانب أنها شريكة حياته نرى أنها لم تَنسَ واجباتها كمساعدة له، فلم يَكْتَفِ هو بأن يُعَوّل عليها في أدقّ تفاصيل حياته، وإنما اصطحبها معه في عدد من أسفاره، ولم يَغِبْ عنها أن تُقَوِّيَ حضورَها عنده بمرافقتها له إلى الندوات السينمائية..
مُخْرِجُنا إينغمار بيرغمان هو صيّاد ماهر للفرص التي أَهَّلَتْهُ ليَحصد الجوائز الدولية نظرا لعمق المقاربات السينمائية التي يَتناولها في إبداعاته، هذا فضلا عن كونه خاطفَ جائزة الأوسكار في أكثر من موسم سينمائي..
ما يُقارِب تسعين سنة قضاها إينغمار بيرغمان في برميل فارغ يُسمى الحياة، لكنها في المقابل حياة علَّمته الكثير، كما لا ننسى شغف المخرِج نفسه وحُبّه للقراءة، إذ تَعَرَّف في زمن مُبَكِّر على عدد من كبار الكُتّاب الذين كانت تُرفع لهم قبعة الثقافة احتراما ويَنحني لهم إعجابا أولئك المتعطشون لحكمة المعرفة باعتبارها مستشفى العقل التَّوَّاق إلى جرعات تُحْيِيه..
في زمن مُبَكِّر دائما كان مِن حَظّ إينغمار بيرغمان أن يَكتشف الصورة السينمائية والمشهَد المسرحي، مما جعلَه يُوَقِّع بأصابع متوهجة على حضوره كَرَجُل سينما قبل أن يكون رَجُلَ مسرحٍ..
صاحِبُنا إنغمار بيرغمان أبدع كتابة وإخراجا عن العزلة، عن التعذيب، عن سقف الطفولة غير الآيل للسقوط، عن تجربة السجن، عن إعدام شجرة الحرية..
العمل الْمُضني والتفاني في التفرغ للحياة المهنية جعلا إينغمار بيرغمان يَصنع لنفسه اسما ونجومية، غير أن مشاكل اتهامه بالتهرب من أداء الضرائب والاحتيال تَقوده إلى الطيران خارج السويد، وبذلك يَغيب عن مسقط حُلمِه بعد أن تفاقمت الضغوط التي كانت تُرهِقه منذ اقتياده إلى مركز الشرطة للاستماع إلى أقواله في ما يتعلق بالاحتيال الضريبي وصولا إلى ولوجه مستشفى الأمراض النفسية كما كان يَحدث مع أبرز رجال المسرح والفِكر..
رغم كل هذه المطبّات، فإن إينغمار بيرغمان آمن إيمانا عميقا برسالة الصورة البصرية، وراهن على الوصول إلى درجة دغدغة الْمُشاهِد وتحريك أماكن الإحساس فيه بعد أن يَحدث ذلك التفاعُل الخلاّق بين عيون الْمُشاهِدين والصورة الملتَقَطة من زوايا بعينها يَجهلون سِرَّها ولا يَجهله إينغمار بيرغمان..
الإحساس.. إنه الإحساس، ولا شيء سهرَ عليه إينغمار بيرغمان سهرَ ليالي سنوات عمره المديد أكثر من الوصول إلى نقطة الإحساس عند الْمُشاهِد..
في جُلّ ما يُشاهِده الواحد منا «أو يَقرأ شيئا منه»، ما أَحْوَجَنا حقا إلى هذه البذرة السمراء المسَمَّاة «الإحساس» الساخن سخونةَ قطعة مِن الجسد تحت لَفحِ سَوطِ شمسٍ حارقة!
ما أحوجنا إلى مصافحة الروح للروح!
ما أحوجنا إلى عناق القلب للقلب!
بقلم: سعاد درير
copy short url   نسخ
01/04/2019
2155