+ A
A -
د. سعاد درير
بين القدح والساقي ما بين البَيت وشاعِر الحكمة.. موعدنا اليومَ مع المتنبي الشاعر الحكيم، لِنَقُلْ إنه الشاعِر الذي اعْتَصَرَه الأرَق وأَذَلَّه الغَرَق، وأَيْن؟! في بَحرِ عينين، عينين قال لشمس قنديلهما الشاعرُ: «مولاتي»، فما كان لها أن تقول له: «هاتِ، هاتِها مِن يَدِ الرِّضى»..
لوعة الحُبّ مارقة، ونِيران جُنونه حارقة.. فكيف للمتنبي مِن ثمة ألاَّ يَأرق وهو الذي قليل عليه أن يَأرق، ولِمَ؟! لِنَقُلْ بِحُكم مَا يُعرف عن الشعراء أمثاله مِن قوة إحساس بما تَجود به حواسّهم الجَلِيّة، وحتى تلك الباطنة الخَفِيّة..
«أرَقٌ عَلى أرَقٍ وَمِثْلي يَأرَقُ
وَجَوًى يَزيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ» [الشاعر أبو الطيب المتنبي].
أَقُلْنا الأرَق؟!
صحيح، لكن ما يُكابده الشاعر أبو الطيب المتنبي يَزِن أضعافا مضاعَفة في ميزان الإحساس بغربة الروح في شوارع الليل المهجورة..
«أَرَقٌ على أَرَق»..
إنها الغربة التي تَأكلك وتُقَلِّم أظافِرَ رغبتك في نصيب من النوم الذي يُرَطِّب أعتابَ الجفون ويَسمح للنفس الموجوعة بأن تَتَمَدَّد في سُكون..
فماذا عن الجوى؟!
وما قصته مع الشاعر؟!
لا غرابة أن يَتَصَبَّبَ الحزن مِن فرط العشق الذي يَجلد الذات، فلا يَجد القلب منه إلا أن يَركع ويُذَلَّ هو الذي ما كان له أن يُذِلَّ..
الجوى يا صديقي أقصى ما يمكن أن يَبلغه الهيام.. الجوى يا صديقي أقصى ما يَرتقيه الْمُحِبّ على سُلَّم الغرام..
أوَّلُ العشق نبضٌ، أول العشق مناديل فَرَحٍ تُنشَر على حبل الروح الراقصة رقصة الغيم الحالم بالمطر..
لكن لعنة العشق ورطة.. لعنة العشق تبلغ بالفؤاد المتَيَّم مبلغَ الانكسار والسقوط، فإذا بالحزن قصيدة عذاب، وإذا بسكينة القلب رحلة ذهاب بلا إياب..
صَدِّقْ يا صديقي أنه الحزن، أنه الحزن الذي تُصَيِّرُه لحظات الاحتراق سَوطا يَجلد، يَجلد بعيدا عن قانون الشفقة، يَجلد خارج دِين الرحمة..
وهنا يَمضي الشاعر راصدا ما فَعَلتْه به رِقَّةُ الشوق وحرارتُه وحُمَّاه.. إنها الصبابة:
«جُهْدُ الصّبابَةِ أنْ تكونَ كما أرَى
عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وقَلْبٌ يَخْفِقُ
مَا لاحَ بَرْقٌ أوْ تَرَنّمَ طائِرٌ
إلاّ انْثَنَيْتُ وَلي فُؤادٌ شَيّقُ» [الشاعر أبو الطيب المتنبي].
إنه مشهد السقوط أسير معركة الحُبّ الخاسرة فيها خيلُك.. فلا شيء في انتظارك سِوى البطولة المطْلَقة للسُّهاد (وفي ذلك فنون) وللنبض بجنون..
بَلْوَى.. بَلْوَى هذا الشوقُ، شوق فؤاد الشاعر إلى لقاءِ مَن يَهوى بَلْوَى، وما أمام الشاعر المحترِق داخليا إلا أن يَقول: يا عينَيَّ زِيدا في بكائكما، ويا قلبي زِدْ في معدل الطيران بهذا الخروج عن النص مِن الخفقان..
هل يكتم الشاعر لَوْعَتَه وحنينه؟!
هل يُخَبِّئُ في صندوق الليل حُرقتَه؟!
هل يُراوِغ؟!
هل يُماطِل؟!
هل يَحتال؟!
مِن المؤكد أن ذلك لم يَكن في وسع شاعر تُلْهِبُه الدموع وتَكويه وتُمَرِّغُ رَحى الوَجد في العدم قلبا يَطويه..
يتراءى لنا هنا شاعرُنا مُمَزَّقَ الوجدان مُتَشَظِّيَ الأنفاس في غياب أَعَزّ الناس، بل إنه يُصيب في تقريبنا مِن صورة وضعه الحقيقي وهو يَحكي بلسان العين والقلب كيف يُصَفِّقُ كِلاهما انتصارا عليه كلما نال منه الحنين إلى ديارهم وأراضيهم ما أن يَلمح برقاً في مرآة الحقيقة القائلة إنه مازال متعطشا إلى صورتهم ومتعلقا بصوتهم.. أليس صَوتهم ما تُذَكِّرُه به كل همسة يترنم بها طائر يَمدّ جسورَ الوصال؟!
عن تلك اللحظات الفاصلة بين الحقيقة والموت في فُلك التجربة الخائض غمارَ بحرٍ صعب يَحكي لنا شاهدُ الحُبّ:
«جَرّبْتُ مِنْ نَارِ الهَوَى ما تَنطَفي
نَارُ الغَضَى وَتَكِلُّ عَمّا يُحْرِقُ
وَعَذَلْتُ أهْلَ العِشْقِ حتى ذُقْتُه
فعجبتُ كيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ» [الشاعر أبو الطيب المتنبي].
يتساءل الشاعر بمرارة كيف لغير أهل العشق أن يموتوا؟ وكيف يمكن لهذا الموت أن يتحقق إن كان الموت الأعظم والأسمى لا يَعرفه إلا أهل العشق.. فأهل العشق هم فقط الاستثناء الذي جَرَّبَ المعنى الحقيقي للموت، ومن ثمة عرفوا هُم الموت الحقيقي وتَذَوَّقوه وتَحَسَّسوه وجَسُّوا نبضَه..
فإذا كان الغضى نفسُه يُعْرَف بأنه أكثر ما لا يتحقق انطفاؤه بِيُسر ولا يَنتهي اشتعاله، فإن الشاعر يؤكد بحكمة اليقين أن نار هواه يستحيل أن تنطفئ، وهَيْهَات لهذا الغضى الذي لا يملّ منه الجمرُ أن يحتفظ باشتعاله قبالةَ موكب حُزن الشاعر المبلَّل بلعنة الحُبّ المشتعل في أحشائه اشتعالَ جمرة!
هل هذا كل شيء؟!
طبعا لا، لماذا؟ لأن الشاعر ينتبه في وقت متأخر إلى أن الزمن يعصره نكاية في سخطه على العشاق والمحِبّين الذين لم يَجِدْ هُوَ حرجا في أن يُعيّرهم..
بالتالي؟!
بالتالي ما كان من الزمن إلا أن يُدير رَحى الانتقام، ويُوقِع بالشاعر في شِراك الغرام..
«وَعَذَلْتُ أهْلَ العِشْقِ حتى ذُقْتُه
فعجبتُ كيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ
وَعَذَرْتُهُمْ وعَرَفْتُ ذَنْبي أنّني
عَيّرْتُهُمْ فَلَقيتُ فيهِ ما لَقُوا» [الشاعر المتنبي].
وهنا تكمن المهزلة، لماذا؟ لأن الشاعر يؤكد لنا بأنه سقط أسيرَ مخالب الزمن، وبأن الزمن اللئيم سَقاه مِن نفس الكأس التي أصابَتْ أهلَ العشق بالخبل، الخبل اللذيذ، وإن كانت لذة يَسكنها ألم.
إنها دروس مستقاة مِن مدرسَة الحياة التي تَسقط فيها أسنان النزَق والطيش، فإذا بالحليم يَحتكم إلى اللسان القويم الذي يَتعبّد تحت صومعة العقل الآمِر أمرَه بما يُمليه الدليل وتوثِرُه الحُجّ ويستسيغه البيان.
غير أن نهر الحكمة سرعان ما يَتفجر في العالَم السفلي للشاعر المتنبي، وهنا نراه يطلق العنان لذلك اللسان الذي يَصطاد عصافيرَ الحكمة في سماء بحر المكابَدة بعيدا عن جُزر الحُبّ:
«نَبْكي على الدّنْيا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ
جَمَعَتْهُمُ الدّنْيا فَلَمْ يَتَفَرّقُوا
أينَ الأكاسِرَةُ الجَبابِرَةُ الأُلى
كَنَزُوا الكُنُوزَ فَما بَقينَ وَلا بَقوا
من كلّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بجيْشِهِ
حتى ثَوَى فَحَواهُ لَحدٌ ضَيّقُ
خُرْسٌ إذا نُودوا كأنْ لم يَعْلَمُوا
أنّ الكَلامَ لَهُمْ حَلالٌ مُطلَقُ
فَالمَوْتُ آتٍ وَالنُّفُوسُ نَفائِسٌ
وَالمُسْتَعِزُّ بِمَا لَدَيْهِ الأحْمَقُ
وَالمــرء يَأْمُلُ والحيَاةُ شهيةٌ
وَالشَيب أَوْقَرُ والشبيبةُ أَنْزَقُ» [الشاعر المتنبي].
إنه ذيل من الْحِكَم هذا الذي يُداعبنا به الشاعر المتنبي محاولا باجتهاد أن يُدغدغنا عن عمق.. ذيل من الحِكَم لا شك في أن الشاعر خبرَ عَبْرَه قساوة ليل الجفاء، في حياة تُرغبك وتتمنع عنك، وحرارةَ صحراء التمني..
إنها شهوة البدايات..
إنها الشهوة التي لا تقل حُلما باللذة عن شهوة الحياة..
وهنا نلاحظ بشكل واضح أن الشاعر بدأ قصيدته معلنا حرب الحُبّ وصهيل القلب في شاطئ الظلام، لكنه (الشاعر) اتخذ هذه البداية مطيةً صيَّرَها عقبةً سرعان ما تجاوَزَتْها فَرَسُه الشِّعرية..
والعبرة؟!
العبرة أن صاحِبنا المتنبي يتحايل بحَبل خِبرته في سِباق القوافي لِيُمَرِّرَ ما هو أعظم شأنا مِن حيرة ذلك القلب الغافي.. إنه القلبُ المعذَّب الذي دَأَبَ على أن يَغْفَى بين تلال الشوق الذي تَجرفه رياحُ الصبابة وتَجري به بما لا تشتهي سُفن الوعي الخَلاَّق..
ختامُه مسك ذاك السَّفَر الشِّعري اللذيذ والمتَّقِدُ حكمةً بما يختزنه من عِبَرٍ ودروس قلما يَفطن إليها السائق المتهور في طريق الحياة..
موعد يَضربه لك الفراق آخِرَ كل لقاء.. ولا تُصَدِّقْ يا صديقي أن ما تَدَّخِرُه من نفيسٍ وغالٍ وما تكنزه من كنوز سيُجيزُ لك الخلود في دنيا لا تَعِدُكَ باكتمال البقاء..
حتى أولئك الذين صَيَّرْنَاهُم عُظماءَنا لن تَفرح لهم بخلود في غير دار الخلود..
لكَ دَين، دَينٌ تَقضيه، وأين؟! في قلب قبرٍ أضيق مِن خرم إبرةِ طمعكَ في فجر الرحمة وأنت الأدرى بكواسر ليل الثرى..
ما أَوْسَعَ صدرَ التمني!
ما أَشْهَى عَيْنَ ماءِ الحياة لولا جرعة الموت الْمُرَّة!
أوَلَمْ أَقُلْ لكَ إنه الحزن الحقيقي يا صديقي؟!
إنه الحزن الأحقّ بأن يَستهلِكَ الماءَ ويَستغرق الدِّماءَ، ماء عينيكَ الحالفتين أن تَفجرا في البكاء على مَن ليس أهلاً، ودماءَ قلبك الحالف ألا يَخفق لمن يَستحق.
copy short url   نسخ
06/04/2019
2771