+ A
A -
عشت الجزء الأول من طفولتي في محافظة طرطوس على الساحل السوري، إذ أنني أنتمي بالمولد والهوية إلى هذه المحافظة، كان بيت أهلي في حي قريب على البحر جدا، طرطوس أصلا كانت مدينة صغيرة جدا، وكل أحيائها قريبة من البحر، من مشاهد تلك الطفولة التي لا تزول من ذاكرتي،
كان مشهد سفن البحرية الروسية حين ترسو في ميناء طرطوس القديم، وتمتلئ شوارع المدينة بالبحارة الروس يحملون معهم ما كان بالنسبة لأطفال بأعمارنا ما هو قادم من بلاد العجائب، انواع من الشوكولا غير الموجودة في بلادنا، ألعاب صغيرة نادرة، كانوا يوزعونها على الأطفال في سوق المدينة حيث كانوا يرتادون سوقها كي يشتروا ما لا يوجد في بلادهم، بيتنا كان في السوق، وكان لي نصيب مهم من هذه الأشياء التي يحملونها معهم، أما أكثر ما كانوا يوزعونه علينا فهو شارة البحرية الروسية الملونة، والتي كنا نعلقها على صدورنا ونحن بغاية الفخر، كما لو أن البحارة الروس قد منحونا امتيازا نستطيع فيه أن نتعالى على بقية الأطفال المحرومين من هذا الاستثناء، ذلك كله كان في نهاية ستينيات القرن الماضي وبداية سبعينياته، قبل أن تنتقل أسرتي للعيش في دمشق.
تلك الفترة هي الفترة التي استلم فيها حزب البعث حكم سوريا، بعد حركة الثامن من آذار عام 1963، أو ما أطلقوا عليه (ثورة الثامن من آذار) تيمنا بـ (ثورة يوليو) التي قام بها عبد الناصر والضباط الأحرار في مصر.. في سوريا أيضا الضباط هم من قاموا بالحركة هذه، وقتها كان الانقسام بين المعسكر الشرقي والآخر الغربي في العالم على أشده، كل الحركات أو الثورات التي قامت في الوطن العربي كانت منحازة إلى المعسكر الشرقي باعتباره معسكر البروليتاريا واليسار التقدمي المضاد لليمين الرجعي الرأسمالي، كان الانتماء لليسار موضة ذلك العصر، وليس غريبا أن كل تلك الثورات التي قامت وقتها في بلاد العرب كانت انقلابات عسكرية، استلم العسكر بعدها الحكم ولم يتركوه حتى الآن، دعم الاتحاد السوفياتي الحركات الانقلابية العسكرية العربية، ووضع ثقله لإيصالها إلى الحكم، وبالمقابل تبنى القائمون على الانقلابات النموذج الشيوعي في الحكم من حيث كونه حكما توتاليتاريا عسكريا أمنيا قمعيا، أما عن تطبيق النظرية الماركسية في المجتمعات العربية فكانت ذريعتهم أنها لا تتناسب مع ثقافة مجتمعاتنا العربية!
كان لسوريا النصيب الأكبر من الدعم السوفياتي لحكم العسكر فيها، عرف حافظ الأسد لاحقا كيف يقيم تحالفا قويا مع السوفيات، الذين كانوا متنبهين إلى ميناء طرطوس الصغير الذي تحول بزمن قصير إلى ما يشبه الميناء العسكري لهم، قبل أن ينشئ الاتحاد السوفياتي قاعدة بحرية عسكرية له في مدينة طرطوس، لتكون القاعدة العسكرية الوحيدة له في شرق المتوسط، البحارة الروس الذين كانوا يملؤون مدينة طرطوس كل شهر تقريبا كانوا تابعين للبحرية العسكرية الروسية التي كانت تنشئ القاعدة، مع الوقت بدأ يقل تواجد البحارة الروس في قلب المدينة، مكتفين بوجودهم في القاعدة، وبعلاقاتهم مع الموظفين من أهل البلد الذين يعملون في منشآت مجاورة للقاعدة العسكرية الروسية. إذا تعود علاقة الروس بمدينة طرطوس إلى أيام الاتحاد السوفياتي، أو ربما من الأصح القول إن علاقة الجيش السوري بالاتحاد السوفياتي قديمة جدا، فخبرات الجيش السوري برمتها مستقاة من هناك، كان الاتحاد السوفياتي يستقبل أفواجا من العسكر السوريين لتدريبهم ومنحهم الشهادات العسكرية، حتى أسلحة الجيش السوري كانت من الاتحاد السوفياتي، وبقي هذا التحالف قائما حتى بعد زوال الاتحاد السوفياتي وتفككه، ضعف قليلا لصالح إيران، منذ بداية الألفية الثانية.
{ - ( يتبع)
بقلم: رشا عمران
copy short url   نسخ
23/04/2019
2267