+ A
A -
بقلم :
د. سعاد درير
كاتبة مغربية
الحُبُّ وطن آخَر..
===
«جيم واو».. اسمي، يَتبعني كجُثَّة لا أقوى على التخلص منها لوطأة ما تَحمله مِن ذكرى، ماضٍ يأبى أن يُوارَى طَيَّ النسيان.
قدمْتُ من الولايات العربية إلى كندا الحرية لأعانق حلما قديما تشتتتْ أوراقه كقصيدة خانها ترتيبُ أبياتها.
أعيش في بلدة هادئة على الساحل، أطارد جمال فَراش الصباح، وأُحَلِّقُ مع أصوات العصافير إلى رُبَى الصفاء التي تُظَلِّلُها غيمةُ الحُبّ.
أُدَرِّسُ ثلاث لغات.. وطُلاّبي من مختلف الفئات العمرية، فمعهد «وايت» الذي أنتمي إليه لا يعترف بالزمن ولا يحسب حسابَه.
أهوى الرسمَ، وأَعشقُ السباحةَ تحت ضوء القمر. وأخصص جزءا مهما من عطلة نهاية الأسبوع للتطوع كمُساعِدة اجتماعية في دار «لامُوم» للمُسِنِّين على بُعد ثلاثة كيلومترات من المعهد.
يُطْرِبُني قطف الورود مساءً والإصغاء إلى ما تَقوله شمعة لشمعة على مدار معزوفة ضوء يُراقصُ فيها الأملُ الوليدُ سِرْبَ الأمنيات الْمُجْهَضَة.
الحالة الاجتماعية: أرملة أو قِسْ على ذلك.
الانتماء: طفولة بِجَسَد امرأة ثلاثينية.
===
هي لوعة الحاضر تجتاحني كلما هتفتُ سهوا بِاسمه على بعد مسافة لا تَقِلُّ في عينيّ عما بين سماء وأرض.
أهفو إلى باب أملٍ أمسى يقلّ إلىَّ خيول الألم التي لم تتجرعْ مرارةَ الهزيمة في ساحتي قطُّ.
تعطلتْ عندي لغةُ الكلام.. تعطلَتْ عندي لغةُ الحياة.. وما عدتُ أتقن أكثر من أن أتنقل بعينيّ كل مساء وظهيرة بين ما احتفظتُ به من رسائل قصيرة زَفَّهَا ملءَ اليتمِ إلى قلبي قَدَرُه (أو قَدَرِي) في وقت متأخر..
===
حتى متى لا تُشرق شمسُه؟!
لا أعرف.
كل ما أعرفه هو أنني كلما عاودتُ مطاردةَ حروفه حرفا حرفا أراني أُمْطِرُ قلبا وعينا..
===
بعيدا رَحَلَ..
بعيدا جدا رحل، ومع كل خطوة كان يخطوها بعيدا عني كان يجرّ معه معنى آخَر لحياة ما عُدتُ أقوى على تحملها..
بعيدا رحل..
وما ترك لي أكثر من رسائل قصيرة تَكاد تُعَدُّ على رؤوس أصابع إلىَد..
===
يا له من قَدَر!
وما أغربَك يا زمن!
بِضع رسائل؟!
بِضع رسائل تتحالف مع النوى ضدي!
===
أَتَفَقَّدُ بِركَةَ دموعي الآسِنة بملحها ورمادها، وأقطِفُ ثمارَ ذكرى ذلك المساء اليتيم..
في ذلك المساء انتفضتُ ما أن لمحتُ عينيه عقب مناداته لي..
قرأتُ بريدَ عينيه..
ناداني باسمي كأن شيئا لم يكن، ناداني باسمي وابتسمتْ في وجهي عيناه..
===
بِرَبِّه!.. أمازال يَذْكُرُنِي؟!
===
ابتسمَتْ في وجهي عيناه كأن صورتهما ما فارقتني منذ رمقتُهما للمرة الأولى قبل أكثر من خمس عشرة سنة..
===
بين مَدِّ عينيه وجَزْرِهما كنتُ أطالع في بريقهما وأَسْرِ سِحْرِهما كتابا ما فتحتُ سِواه.. ما فَتَحْتُ قبلَه ولا بعدَه..
===
انكفأتُ على ورقة الامتحان أكتب بحبر الدموع ما عجز القلمُ عن خَطِّه سطرا سطرا..
كانت المناديل الورقية تَذوب بين كفَّيَّ بِقَدْرِ ما أذوب أنا..
انتبهتُ في شرود إلى الأستاذ الأميركي وهو يَستفسر عمّا إذا كنتُ قد تعرَّضْتُ لمكروه ما..
يا للسخط!
أفسدْتُ ترتيبَ وجهي وأفسدْتُ ورقة الامتحان!
لملمْتُ بعضَ الدموع وشيئا من أنفاسي، ورَتَّبْتُ بعضَ الحروف التي احتبسَتْ في حنجرتي وما تمكنْتُ من اعتصارها..
وددْتُ أن أفضفض لذلك الرجل الأميركي الذي ربما لن يحس بوجعي، لاسيما وأن الشائع عنهم تصلُّب شعورهم وضَيْق أُفُق إحساسهم بالآخَرين..
وددْتُ أن أشرح له يُتمي في ظل غياب مَن رحلَ عني بعد أن ساقه قَدَرُه العابث إلىَّ..
تطلعتُ إلى الأستاذ وأنا أُضْمِرُ دون جدوى رسائلَ عينيَّ الصارختين بحروف الدمع..
كيف لهذا الأجنبي الرقيق أن يَطْمَئِنَّ عليَّ وكِلانا يجهلُ لغةَ الآخَر في غياب أيّ لغة أخرى تَشفع للتواصل؟!
حاولْتُ أن أبرر له مَشهدَ الدموع، ألفَوَّارَة، بِلُغتي، لكن ثقافتَه كانت إنجليزية محضة..
حَظِّي من اللغة الانجليزية ساعتها كان دون المستوى الذي يَرقى إليه البوح، ففكرتُ في حلٍّ يُنهي المسألةَ..
كنتُ على وشك أن أنهارَ مِن فرط تأثير البكاء، وما أفلحَ صمتي في أن يدفعَ الأستاذَ إلى أن ينأى بعيدا عني..
مضيتُ أخطو خطوات متثاقلة إليه لأُسَلِّمَه ورقة الامتحان الفارغة من محتوى سليم ومعها مُسْوَدَّة..
حاولْتُ في الْمُسْوَدَّة جاهدةً أن أستثمر رصيدي من انجليزية خائرة القوى هي الأخرى لأقول له بالحرف ما اختلج في دواخلي وقد خانني صوتي..
===
تفاديْتُ عناقَ نظراتي الهاربة ونظراتِه المتوسلة وأنا أُهَرِّبُ ورقةَ الامتحان بعيدا عن يَدِه..
هَرَّبْتُها ومعها المسودَّة التي انتشلَها هو من المكتب متسائلا بينما فررتُ أنا كالضوء الشارد لأطلق سراح شوقي المارد..
كيف لي أن أغادر بحرَ عينَيْ مَن كان زمني، زمني الهارب وحتى ذاك الآيل للهروب؟!
كيف لي أن أُفْرِغَ عينِي الثالثة منه؟!
فقدتُ حُبَّ عمري..
شخص ما حاولَ قتْلَ مَن أحببتُه..
تصورتُ أن مَن أحببتُه سقط مِن حبل الذاكرة..
لكن لا، لا، لم أنسَه..
هو أول بذرة حُبّ وآخِر سنابل الحصاد..
لقد رحل بعيدا، وما كان لي أن أودعه..
طيلة الوقت تَفيض بحيرَتا دمعي..
ولا أدري إن كان مَن أحببتُ ممدَّدا على سرير الحياة أم مربوطا بحبل الآخِرة..
كل الأحلام تَطير معه..
ومِن أين لي بقلب ثانٍ أقتنيه؟!
===
إلى الآن لم يَغِبْ ذلك الأستاذ الأميركي عن ذاكرتي.. إلى الآن لا أنسى بحرَه الأزرق الذي امتدَّ على مساحة عينيه دافئا بحِسِّه الإنساني المُرْهَف الذي يعلِّمُك أن الرجُلَ هو المَوْقِف..
لم تُسعِفني الكلمات ولا اللسان لِأُمَرِّغَ ألمي في بساط دافئٍ قد أَدْنَتْهُ مني نظراتُ الرجل الأميركي المستعطِفة بعد أن قادَتْه المسؤولية إلى قاعة الأنشطة في مركز الثقافات واللغات الإنسانية لحراسة امتحان المستوى الأخير في اللغة الروسية..
أَشفقَ الرجلُ الأميركي على ثورَةٍ يقودُها حصانُ الصمت الذي يتقدم امرأةً أَكُونُها وقد ذَوَّبَه مَشهد حُزنها..
في المقابل كانت عيناي تتوسلانه ألاَّ يَنبش أكثر فأكثر جرحي النازف بنظراته المبلَّلَة بماء الحُبّ عكس ما يُعْرَف عن مثل هذه الفصائل مِن البَشر..
وإن كُنَّا من جَرَّتَيْ طِين مختلفتين، فإن دماء الإنسانية التي تجري في العروق واحدة لمن شاء له مولاه أن يَنبض بها..
===
كنتُ أنثر كلمات الأجوبة على الأسئلة الروسية دونما تركيز كحفنة تراب أو كومة قش تُشَتِّتها الريح..
أَأُنْكِر أنني لم أُحَضِّرْ سطرا للامتحان ولم أُرَاجِعْ حَرفا يُذْكَرُ؟!
ألا يَكفي أن يظهر هذا الـ«عين باء» ويغيب دون إشعار كَيْ أَفْقِدَ شهيةَ المراجعة والتأهب للامتحان؟!
ألا يكفي أنني أَضَعْتُه مرتين حتى أفقد شهيةَ الحياة دونه؟!
ألا يكفي أن يَعبر «عين باء» بدوني أكثر مِن محيط وقارة حتى تتقطع أسلاك التواصل في ما بيننا إلى الأبد؟!
===
مرة أخرى ذهب طائر «عين باء» بعيدا، بعيدا عني، وما ودعني.. تركني كأنني ما عدت أكثر من ذاك الكرسي المهجور الذي تُبَلِّلُه غيمة اليتم..
ما تبقى من ريش طائر «عين باء» ترَكَهَ ليَملأ وسادةَ الذكريات المتعَبة، فما فتئ يَخِزُني..
===
في اليوم الذي كان مِن المقرَّر أن نَلتقي فيه، وقبل موعد اللقاء بساعاتٍ قليلة، جاءتني رسالتُه القصيرة مبتورةً هي الأخيرة..
===
يا الله!
رسالة مبتورة!
أأُكْمِلُها مِن عندي؟!
===
مازِلْتُ أَلْعن للمرة الألف (أو أكثر) شركةَ الاتصال التي بخلَتْ عليَّ بتتمة الرسالة القصيرة وحكمَتْ عليَّ بمستقبَل مُعَلَّق..
===
مستقبَل مُعَلَّق كما هو العدل مُعَلَّق على عمود الظلام في كوكبنا!
===
ماذا أفعل إن كانت شركة الاتصال تلك هي المسؤولة عن بَتْر نصف رسالة قصيرة تتوقف عليها مسألة حياة أو موت؟!
===
كم هو مُحزِن حقا أن يَتواطَأ وسيطُ اتصالٍ مع عَمَى الوقت ضِدَّك!
في نصف الرسالة القصيرة تلك التي وصلتني متأخرة عن زمن إرسالها، بوقت، قال «عين باء» بالحرف:
«غادرتُ ترابَ الوطن لضبط مسائل تتعلق بعملي لأنني مُلْزَم بالتوقف عن العمل لما يُقارِبُ الشهر، لا أستطيع العمل، لستُ بخير، هذه هي آخِر رسالة قصيرة أبعثها من هذا الرقم الهاتفي، عندما...».
===
«عندما»!
«عندما»؟
هنا تَوَقَّفَتْ رسالةُ «عين باء» الأخيرة!
هنا توقَّفَتْ رسالته القصيرة المبتورة!
ومَضَت الأيامُ، وسؤالُ «عندما» يَكبر ويَكبر..
===
كنتُ قد شرعْتُ في البكاء بحُرقةٍ، لم أَعْهَدْها، ومرارةٍ ما أن بدأتُ في قراءة الرسالة..
في ذروة نحيبي حاولتُ فكَّ طلاسِم الكلمة الأخيرة مرارا:
«عندما»!
عندما ماذا؟!
هل كان «عين باء» ينوي أن يقول إنه سيتصل بي لاحقا عندما يصل إلى محل إقامته ويستخدم رقما هاتفيا آخر يَحترم الرابط الدولي؟!
هل كان ينوي أن يقول إنه سيكون قد تخلص من رقم هاتفه ذاك عندما أَتَوَصَّل أنا برسالته؟!
هل كان ينوي أن يقول إنه سيكون قد نَسِيَ أَمْرَ اللقاء بالكامل عندما تَصِلني رسالته تلك؟!
هل كان ينوي أن يقول إنه لن يتصل بي إلا عندما تنتهي المدة التي رَخَّصَ له فيها الطبيب بالكفّ عن العمل كليا؟!
هل..؟!
وهل..؟!
وهل..؟!
===
مضى يوم واثنان وثلاثة وأكثر، أكثر بكثير من ذلك الذي قد يَتَوَقَّعه العقل والمنطق وأنا مازلتُ كُلَّ مساء وظهيرة أَتَفَقَّد رسائله القصيرة..
رسائله القصيرة، على قِلَّتِها، أحمدُ اللهَ، أحمدُ اللهَ أن ذاكرة الهاتف لم تَمسحها دفعة واحدة كما عوَّدَتني.
في اليوم الواحد كنتُ أحاول مرارا تأويل رسالته القصيرة، رسالته المبتورة الأخيرة التي تَوَقَّفَ فيها الحديث عند كلمة «عندما»..
وفي كل مرة أمارس فيها فعل التأويل ومحاولة استيعاب ما لم يُكْتَبْ أَجِدني ألعن شركة الاتصال..
كيف لشركة اتصال أن تَبخل عليّ بتتمة الرسالة القصيرة التي يتوقف عليها موتي أو حياتي؟!
===
أهناك حياة أخرى بطعم الموت غير الانتظار؟!
===
خذلتني شركة الاتصال تلك التي وثقتُ بها على مدى عمر.. وضعَتْني في موقف مُحْرِج مع ذاتي وحياتي، وخذلَتْني كما لم تَخذلني يوما.
في غمرة صدمتي في رسالة «عين باء» القصيرة على امتداد زمن ذلك اليوم تَسَمَّرْتُ في مكاني على مقربة من السرير..
كانت أصابعي ترتعش حتى أن الهاتف المحمول كاد يَسقط أرضا..
خذلَتْني أصابعي وخذلَتْني شركةُ الاتصال وخذلني الزمن أكثر فأكثر.. الزمن العابث الذي يكيل لي اللكمات دون وجهِ حَقّ!
لماذا يفعل بي الزمن ما يفعله بي؟!
لماذا يَحملني في رمشة عين على بساطِ حُلمٍ يطير بي إلى الأعالي مسابِقا الغُيومَ التي أُعَلِّمُها كيف تتمايل راقصةً، ثم يرمي بي إلى قاع الأرض لتنكسر أضلعي الغضّة؟!
لم أقل له (الزمن) إن أضلعي لم تتذوق يوما حلاوة الدفء وطعم الحنان..
لماذا يرمي بي الزمن لينكسر قلبي المعلَّق على عمود الحرمان؟!
===
مرارا أسرُّ إلى نفسي:
«لستِ لهذا الزمن..
لستِ لهذا الزمن..
لستِ لهذا الزمن»!
===
قهرَني الزمن، وقهرَتْني شركة الاتصال.. وقهرني الرحيل يا وجعَ الرحيل لمن لم يُجَرِّبه!
===
تَوَثَّبَتْ أنفاسي المختلَسة في غمرة نشيجي..
ماذا تَبَقَّى لي في هذا الزمن اللعين؟!
ماذا تَبَقَّى لي في هذه الحياة البائسة؟!
===
كأنني أطارِد السراب!
وهذا الـ «عين باء» الذي لم أُلاحِقْه يوما أراه في كل مرة يَسطع في حياتي..
كنجم ثاقب يُلاحقني، ثم يغيب في احتشام، وأكابد أنا رحيلَه كأن زلزالا مر من هنا..
===
أتذكر كيف لم يتركني الأستاذ الأميركي وشأني حين قرأ في عينيّ الملتهبتين معاني اللوعة والأسى.
تقبلْتُ شاردة التفكير علاماتِ التعجب التي ارتسمتْ في عينَيْ الأستاذ ولسانُ حالي يَكاد يقول له:
«ما من مجال لأُحَدِّثَكَ عما يَجول في خاطري وأنا رهينة الألم».
===
ظل التَّوْقُ يُلهِبُ شراييني في غياب من حلمْتُ بلقائه لدقائق لا أكثر، دقائق قد تَكفي لأُثَمِّنَها بعُمر كامل.
لكنه القَدَرُ دائما يَلعب معي لعبته السخيفة! يا لَحَظِّي من القَدَر!
هرمَتْ روحي قبل الوقت، ونسيتُ بأنني أنثى..
لماذا؟!
لماذا رحل رحيلا مُوجِعا وما ودعني؟!
===
بالله عَلَيَّ!
أوَنسيتُ أنه قد تَعَرَّضَ لمحاولة قتل؟!
أوَنسيتُ أنه فقد على إثر ذلك عملَه الذي يتوقف عليه تحديد دخله، بل أكثر من هذا يتوقف عليه تحديد إقامته؟!
أوَنسيتُ أنه في أرض غير الأرض؟!
أوَ..؟ !
أوَ..؟ !
أوَ..؟ !
===
يقينا ما نسيتُ هذا ولا ذاك..
لكنه حِسِّي الأنثوي المرهَف حدّ الهشاشة يصور لي ذاك الذي.. والذي..
أين أجد رجُلا سِواه يحترم أنوثتي؟!
أين أجد رجُلا سِواه يحترم عقلي؟!
أين أجد رجُلا سِواه يحترم روحي؟!
لا أظن أنني سأجد هذا الرجُل في مكان آخَر، بل أكاد أجزم أن ما من رجُل في الكون تتوفر فيه هذه المعايير وتنطبق عليه هذه المواصفات..
===
عن أي رجولة أتحدث في ظل غياب الرجولة قيمةً وموقفا وقضيةً؟!
عن أي رجولة أتحدث في ظروف جمعتني بذكور فُرِضُوا عليَّ فرضا وأنا أصطدم بهم في طريقي: ذكور لا يفكرون، أو لنقلْ إنهم يفكرون فقط بصهيل الرغبة المجنونة.
هكذا يفهمون الرجولة أولئك الذين حَتَّمَتْهم عليَّ الصُّدَف السيئة على امتداد طرقات الحياة التي كلما امتدَّتْ ضاقَتْ بي.
===
تأهبتُ للقاء «عين باء»، ولم أَتَأَهَّبْ لاستقبال رسالته الأخيرة المبتورة. فقط كنتُ أُصَبِّر نفسي بمطالعة رسائله القصيرة ريثما يَحين موعد اللقاء.
كنتُ حائرة وأنا أفكر:
أيّ لباس أَنْتَقِيه؟!
وأيّ لون يُرضِيه؟!
كنتُ مشتتة التفكير بين تهيئة نفسي لمقابلته وبين أن أحيا اللحظةَ وأنا هائمة في عالَم كلماته التي حملَتْها رسائله القصيرة.
وبينما أنا والهوى وقيدُ اللحظةِ ضَفِيرةٌ، إذا بها تُقْبِلُ مداهِمةً رسالتُه القصيرة..
كان الهاتف يشير إلى رسالة جديدة دون أن يُشْعِرَني صوتيا بوصولها كما هو معهود..
تَلَقَّفَتْ عيناي الخِطابَ على عجلة وأنا أُخَمِّن في أن يكون «عين باء» قد حطّ رحالَه أخيرا في دِياري، لاسيما وأننا تَواعدنا على ذلك.
لقد كنتُ (لا أنكر) متلهفة على مقابلته للمرة الأخيرة قبل أن يُحَلِّقَ بجناحين إلى حيث لا يمكنني اللحاق به.
واحتراما لرغبتي، واستيعابا منه لإلحاحي على رؤيته، طَمْأَنَنِي بأنه سيكون عند حسن ظني..
===
كيف لا يكون عند حسن ظني وهو (كان) يُبادلني الرغبة وأكثر..؟!
===
ولمزيد من الاطمئنان أو حرصا على تهدئتي وجدتُه يَعِدُني بأن يَبعث رسالة قصيرة ما أن يَبلغ دياري.
===
لا يُوصَف المشهد!
ولا يُوصَف إحساسي!
ولا تُوصَف الصدمة!
===
أول ما تلقيتُ رسالته المبتورة رفرفتْ أجنحةُ قلبي وهي تستشعر دُنُوَّ اللقاء.
لكن سرعان ما استشْعَرْتُ خطرا على أُهْبَةٍ ليُداهمني ويُغَيِّر مسارَ حياتي إن لم يَقلبها رأسا على عقب.
فما أن مسحْتُ بعينيّ الكلمات الأولى التي تخللتْ رسالتَه حتى قفز قلبي متحركا من مكانه..
ما عادت تَحملني ساقاي!
تَجَمَّدَ الدم في عروقي!
أحسستُ فجأة بثقل رأسي الذي ما عُدْتُ أقوى على حمله!
استسلمتُ للأريكة لما ثقلَ جسدي واشتعَلَت الحرائق لما تسللت كل قطرة دم في جسدي إلى مُحَيَّأيَ!
تآمَرَتْ على قلبي الصدمةُ وحدُّ سيف الخيبة الموجِعة!
وجهة واحدة حَجَّتْ إليها دمائي: وجهي!
كاد وجهي ينفجر معلنا عصيان القلب عن تصديق الْمَقلب السخيف الذي رَتَّبَه لي القَدَرُ!
كاد وجهي ينفجر في لحظة حَرِجَة لم يُشفِق عَلَيَّ فيها الزمنُ اللعين!
الزمن! وهل يُعفيني الزمن من مرارة اللحظة الحرجة وحرارة وطأتها!
شرِبْتُ مُكْرَهَةً مقلَبَ الزمن وفي القلب وابلُ غيمٍ عَصِيٍّ وفي العين يتهادى ظِلّ قارب الشجن وفي الصدر حشرجة وفي ألفَمِ مُرَّةٌ هي الرغبة في انعتاق..
copy short url   نسخ
25/05/2019
2472