+ A
A -
في غالبية الدول العربية والإسلامية النخب العسكرية هي المسيطرة على زمام الأمور وتولي الحكم أو تكون الضامن لاستمرار نظام الحكم القمعي هنا والمتسلط هناك، ويقوم معظم رجال الدين بدور «السَنَيد» للنظام واستعمال سلطتهم الروحية للتأثير على الجماهير للخضوع للنظام والتسبيح بحمد الحاكم «إلا من رحم ربي»، ولكن تجد العلمانيين العرب يهاجمون ثوابت الدين الإسلامي عبر تركيز الصراع مع «السَنيد»، ويتحاشون مواجهة النظام الديكتاتوري نفسه.
بدلاً من خوض العلمانيين للمعركة الواجبة والملحة وهي مقاومة الأنظمة السلطوية والديكتاتورية والسعي للوصول بالمجتمعات لما تحلم به وتستحقه من حرية وعدل ومساواة، تجدهم قد وجهوا جل جهودهم وقوتهم لمساندة تلك الأنظمة في قمع الشعوب ودأبهم المستمر على ربط تخلف الأمة وتراجعها بتمسكها بالدين الإسلامي والأعراف والتقاليد المرتبطة به ونكايةً في تيارات الإسلام السياسي خصمها اللدود وكأن أنظمة الحكم في الدول العربية والإسلامية قائمة على الشريعة الإسلامية منذ سقوط الخلافة العثمانية ثم الاستقلال ورحيل المستعمر الأجنبي عن المنطقة، وأن تيارات الإسلام السياسي هي الحاكمة والمتحكمة في مجريات الأمور وليسوا من سكان السجون والمعتقلات والمنافي في غالبية البلدان العربية، وخصوصًا إثر ثورات الربيع العربي التي جاءت نتائجها كاشفة لتمسك الشعوب العربية بجذورها وعاداتها وثقافتها، وبرهنت على هذا عندما أسفرت صناديق الاقتراع كلما أتيحت الفرصة عن اختيار الشعوب لأحزاب وتيارات وحركات تستقي مبادئها وبرامجها من الواقع الفعلي والبعد الثقافي والعمق التاريخي لبلدانها وليست مجرد استنساخ لتجارب الآخرين وهو أمر ليس بالسيئ في المجمل، ولكن النسخ القالبي ليس بالصحيح بتاتًا، بل يجب تطعيمه وتنقيحه ليتناسب مع بلداننا العربية والإسلامية. النقطة الثانية المهمة هي أن سقوط الخلافة الإسلامية وقيام النظام العلماني في تركيا على يد «أتاتورك» قدوة العلمانيون العرب، لم يكن نتيجة ثورة على الدين الإسلامي بل بسبب ضعف منظومة الحكم والنزاعات الداخلية والضغوط الخارجية، عكس ما حدث في فرنسا (1789-1799)، حيث قامت الثورة هناك ضد ثلاثية الملكية المطلقة والطبقة الأرستقراطية والنفوذ الديني الكاثوليكي، وأتاتورك نفسه كان رجلاً عسكريًا واعتمد على نجاح تجربته في الفصل بين الأتراك والعرب والقوميات الأخرى وتركيزه على القومية التركية ومعاداة كل مظاهر الدين الإسلامي وربطه بين الخلافة والدين في رباط واحد وهنا التوأمة العجيبة التي تكررت في المنطقة العربية عندما تجد العلمانيين والقوميين العرب متوائمين وموحدة جهودهم ضد الجماعات والتيارات ذات التوجه الإسلامي ورجال الدين، حيث تجد الخلط الدائم والمتعمد من قِبَل العلمانيين العرب بين الدين الكَنسي والدين الإسلامي وتناسيهم المستمر أنه بينما كانت سيطرة الكنيسة الكاثوليكية على مقاليد الأمور في أوروبا سببًا رئيسيًا لتقهقرها وغرقها فيما بات يعرف بقرون الظلام، كان الالتزام بالشريعة الإسلامية والعادات والتقاليد الخاصة بالشعوب السبب الرئيسي لاتساع رقعة دولة الخلافة وتقدمها وسيطرتها على أراضي شاسعة امتدت عبر القارات الثلاث أفريقيا وآسيا وأوروبا وأثرت البشرية وأمدتها بما لا يمكن حصره من النتاج العلمي والفكري والثقافي وفي كل المجالات. الخطاب المزدوج للعلمانيين العرب في المجمل، فبينما تجدهم يتكلمون باستعلاء ويصمون الشعوب العربية والإسلامية بعدم وعيها وافتقارها للفهم بالقدر الكافي الذي يمكنها من التأكد بأن العلمانية هي الأنسب وتنصيبهم لأنفسهم كوصاة على الشعوب والإدعاء باحتكارهم للمعرفة اللازمة دون غيرها والاتهام السريع لأي مخالف لهم بالرجعية والتخلف ووصمه بالراديكالية وبعضهم يذهب بعيدًا ويربط بين المخالف لهم والتطرف والإرهاب بطرق شتى وكأن الإسلام وليس أنظمة الحكم الديكتاتورية هو سبب التأخر والتخلف، وتجدهم في المقابل يصابون بحالة من الدونية والانسحاق عندما يتحدثون عن الغرب ومدى تقدمه وتمتعه بالحرية والعدل والمساواة في ظل الحكم العلماني.
في النهاية، ما يغيب عن العلمانيين العرب هو أن العلمانية قد نشأت في ظل مناخ مناهض ومعاد للدين الكنسي الكاثوليكي، وارتباط الشعوب العربية والإسلامية برباط وثيق الصلة بالدين والعادات والتقاليد المتوارثة واختلاف الدين الإسلامي عن غيره من الأديان «السماوية والوضعية» وهو أنه دين جامع ومانع ومتداخل في كل صغيرة وكبيرة فيما يخص الفرد والمجتمع والدولة ومؤسساتها ونظام الحكم فيها، وشريعة تهتم بالسلوك والأخلاق والاقتصاد والسياسة والعلم وما ترك شيءًا أو أمرًا إلا وأوضحه وأبانه، ولو أنصفوا لاعترفوا وهم بالتأكيد يعلمون أن العديد من الدساتير والقوانين في الغرب تتواجد فيها بنود عدة مستمدة من تعاليم الدين الإسلامي وأحكامه التي تنص على الحرية والعدل والمساواة.
بقلم: جمال الهواري
copy short url   نسخ
02/08/2019
1326