+ A
A -
يحكى أن امرأة في العقد السادس من عمرها دخلت إلى قاعة الدرس بإحدى كليات العلوم في اليوم الأول من العام الدراسي، فوقف الطلبة اعتقادًا منهم أنها الأستاذة، لكنها أخذت مكانًا بين زملائها الطلبة.
بعد انتهاء المحاضرة، التفَّ حولها الطلاب معربين عن دهشتهم من وجودها بينهم، فقالت: أنا ربة منزل عادية كافحت مع زوجي مذ أن كان شاباً فقيرًا لا درهم معه ولا دينار، ولم أعضله في طلبات الزواج، بل على العكس، سهلت عليه كل صعب لتيسير الحلال، وارتضيت سعيدة بمشاركته في كل صعوبات الدرب، وتحملت صابرة تقلبات مزاجه وسوء معاملته وهجرانه وصده وغلظته واستبداده، وركزت على أي جميل يصدر منه، وتيقنت أنه لا يرى أي واجب عليه سوى الواجبات المادية، والتي بموجبها يرى أن له بالمقابل حق التعنيف، فتأقلمت مع طباعه، فلربما نُزعت الرحمة من قلبه، وانكفأت أربي صغارنا حتى صار منهم الجراح والمحامي وأستاذة الجامعة والمدرسة.
عشت مع زوجي المتسلط الذي يصرخ لسان حاله «لا أريكم إلا ما أرى»، فهو ينتقد كل شيء على أقل هفوة، كما يتدخل في كل شؤون البيت ويوبخ على الصغائر والكبائر، بل إنه يتدخل في أعمال المطبخ ومشتريات البيت، فكل الأمور المادية وغير المادية بقبضته ولا يرى أي لزوم لأخذ رأيي أو مشورتي، بل لربما سألني أي مكان تريدين الذهاب إليه، فأسمي له المكان، فيرفض بحسم. هذا عدا أنه كان يطالبنا بالاتصال هاتفيًا به لاستئذانه في فتح خزانته، إذا ما أردنا «بسكوت» أو حلوى، إذ يضع التموين من الحلوى في خزانته، وإن لم نستأذن، اتهمنا بالسرقة.
وتابعت: «كنت أحتمل قسوته وحبه للمنّ والأذى، لكن ما لم أحتمله حدث في إحدى التجمعات الأسرية، حيث كان أولادي في زيارة لنا، وعلى المائدة، دار حديث حول موضوع يتعلق بسوء الوضع الاقتصادي وأثره على الغلاء، فتدخلت للمشاركة في الحديث، فقال لي زوجي وأبنائي: رجاء كفي عن الحديث، فنحن نناقش موضوع اقتصادي بحت، وأنت لم تنهِ حتى تعليمك المدرسي لتفهمي في تلك القضايا الكبيرة!
وصفت الأم كيف أنها حزنت على حالها وكيف طعنها جحود زوجها وأبنائها الذين اعتادوا على أن يرونها مهانة. صمتت الأم لكن في اليوم التالي ذهبت إلى قريب لها يعمل مدرسا وسألته كيف لها أن تتابع دروسها، فأشار عليها بشراء منهج المرحلة الإعدادية، وأضحت تدرس من بيتها دون أن يشعر أحد بها، فزوجها مشغول بمتابعة حاسبه، وهاتفه وتلفازه، ولو حاولت الدخول لعرينه لصب عليها من حسام انتقاداته وأشعرها بالتقصير، ثم إنه لا يشاركها أمور الحياة بدعاوى لا تنتهي عن عدم صلاحيتها في شيء، عدا أن أبناءها كلٌّ مشغول بحياته وعمله.
وفي النهاية، خاضت الامتحانات حتى حصلت على الثانوية العامة وبتفوق، لكن أيضا دون شعور أفراد أسرتها، ثم التحقت بالجامعة لتباشر دراستها العليا على أمل التخرج والحصول على شهادة علمية تثبت لزوجها ولأولادها أن من كافحت وذاقت الفقر، ومن حملت وذاقت الصبر، ومن أرضعت وذاقت آلام المخاض، ومن أعانت وذاقت مر الجحود، ومن أعطت من عمرها وذرفت من صحتها وذاقت علقمية النكران، وأن من لانت وذاقت شراسة الغلظة، أيسر عليها الدراسة لتكون مؤهلة رسميًا للمشاركة في الحديث على طاولة الطعام، وأن تكون جديرة بالإكبار والتقدير وعدم التسفيه ممن كانت لها عليهم أيادٍ بيضاء.
وأنهت حديثها قائلة: ربما لم تكن أحلامي قبل «حديث المائدة» تتجاوز أن يضحك معي زوجي على فكاهة أو أن يشاركني أخبار يومه دون أن يشعرني أنني فضولية أو أن ينظر إلى بنظرة اهتمام أو أن يعاملني بتقدير أمام الأهل، أو أن يكف عن توبيخي أمام البناء أو أن يطلب مشاركتي في مشوار، لكن لربما أراد الله أن يكون جحود زوجي وأبنائي حافزا لي لدخول عوالم أرقى من المعرفة، فحققت ذاتي، بينما كنتأاعيش لخدمة أفراد أسرتي.
وصدق رب العالمين إذ قال: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّ‌ا لَّكُم، بَلْ هُوَ خَيْرٌ‌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِ‌ئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَ‌هُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، (النور: 11).
كاتبة مصرية
Email:[email protected]
copy short url   نسخ
10/08/2019
1756