+ A
A -
مذبحتا «رابعة» و«النهضة» كانتا حتميتين ولو لم يعتصم أنصار الرئيس «محمد مرسي» لبحث عنهم العسكر وجمّعوهم بأنفسهم وبشتى الطرق والوسائل وقاموا بذبحهم وحرقهم لتنفيذ الصدمة الدموية والمدوية المطلوبة لإخماد النفوس الثائرة المتعطشة للحرية، ولإدخال طوائف الشعب المصري المختلفة في صراع مجتمعي يشغلهم ببعضهم البعض، مما يمنح الفرصة للنظام العسكري للاستفراد بالفصائل والحركات السياسية الأخرى،
وفي مقدمتها تلك التي ساندت الانقلاب نفسه والتخلص منها واحدة تلو الأخرى، ليتفرغ «عبدالفتاح السيسي» ونظامه لتنفيذ المهمة الموكلة إليه من قبل موكليه وداعميه الإقليميين والدوليين من تفتيت وهدم لمصر والإجهاض الكامل لثورات الربيع العربي، بعد نجاحه في تنفيذ انقلابه، وتوجيه ضربة موجعة وقاسية لجماعة «الإخوان المسلمين»، كونها العثرة والعقبة الواقفة في وجه العسكر للسيطرة الكاملة على الدولة المصرية؛ لما تتمتع به من تعاطف وتأييد شعبي أجبر النظام العسكري على التفاهم معها ومنحها هامشا من الربح السياسي في أحيان كثيرة، وتمكنها من الفوز بكل الاستحقاقات الانتخابية بعد الثورة ووصول الرئيس «محمد مرسي» أحد أفرادها لحكم مصر في نهاية الأمر، وهو ما كان بمثابة الإنذار بالخطر لو استتب الأمر ودارت عجلة الديمقراطية وتداول السلطة، وفي نفس الوقت المؤشر بأنه قد حان الوقت المناسب للقضاء على الجماعة بشقيها السياسي والدعوي بصفة نهائية، أو إنهاكها وإجبارها على الانكفاء على نفسها لفترة طويلة في أقل التقديرات؛ لتقوم بتضميد جراحها واستعادة تماسكها ولمِّ شتاتها. مصر قبل المجزرة كانت ساحة خلاف سياسي وشدٍّ وجذب بين سلطة شرعية منتخبة وأحزاب وفصائل سياسية معارضة في مناخ ديمقراطي وسقف إعلامي مفتوح بدون خطوط حمراء لم يسبق له مثيل بشهادة المعارضين أنفسهم، لتتحول بعد المجزرة إلى ساحة اقتتال واستئصال سياسي وانشقاق مجتمعي مصبوغ بصبغة الدماء المحرَّمة التي أريقت وما تزال في نهر من الكراهية والاستقطاب، والذي يحرص السيسي ونظامه على جريانه ليبني على ضفافه أركان مشروعه الرامي إلى إفراغ مصر من كل مضمون لمصطلح الدولة، وتحويلها إلى إقطاعية خاصة يتصرف فيها كيفما شاء ويتنازل عن أراضيها ومقدراتها القطعة تلو الأخرى، وفاء لديونه نحو من دعموه وأوصلوه لكرسي الحكم على أشلاء المصريين ودمائهم، فقد ولّى زمن تلقي الدعم بدون حساب وحان وقت القبض ودفع الثمن. مجزرتا «رابعة» و«النهضة» ودماء شهدائهما كانتا بمثابة رسالة من النظام العسكري المصري وبإيعاز من داعميه إلى شعوب المنطقة والمراقبة باهتمام لما يحدث في مصر «قاطرة الأمة العربية»، بأنه لا فرق بين أن تعارض بصوتك سلمياً أو ترفع في وجه النظام سلاحك، ففي كلتا الحالتين سيتم سحقك وقتلك بلا رحمة وبلا هوادة، مصر قبل المجزرة وقبل 3 يوليو كان شعبها ينظر للمستقبل بشيء من الأمل رغم صعوبة الواقع، ويحلم بغدٍ أفضل يتمتع فيه المصريون بحقهم في العيش الكريم الذي تتحقق فيه مطالب ثورة يناير «عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، لتتحول بعد المجزرة إلى شبه دولة تتشح بالسواد الممزوج برائحة الدم ويرزح مواطنوها تحت عبء ثقيل من القهر واليأس والعجز وتتردد في جنباتها أنّات المغيّبين خلف قضبان المعتقلات لتختلط بصراخ الثكالى من أهالي الشهداء ومن يلقون حتفهم يومياً بطرق الموت المختلفة، والتي تلاحق المصريين أينما كانوا بفضل فساد منظومة العسكر، لتمتزج معها زفرات الألم والحسرة لمن اضطروا للهرب والنجاة خارج البلدة الظالم حكامها وتتعالى فيها صرخات المصريين من هول ما يرونه من تفاقم للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والخدمية وارتفاع جنوني للأسعار في غياب تام لأي رؤية أو استراتيجية تنم عن أي تحسن أو انفراجة للوضع القائم والقاتم.مجزرتا «رابعة» و«النهضة» كانتا الشرارة الكبرى والإيذان بالبدء في المعركة الأخيرة للنظام العسكري التي لو خسرها فلن تقوم له قائمة بعدها، والتي حتّمت عليه الخروج من خلف الستارة ونزع القناع كاشفاً عن الوجه الحقيقي.
{ (يتبع)
بقلم: جمال الهواري
copy short url   نسخ
16/08/2019
1349