+ A
A -
منذ تفجر الأوضاع وانطلاق ثورات الربيع العربي في أواخر عام 2010 وإلى يومنا هذا لم يتبق في القاموس البشري من مصطلحات تخص السلم والحرب، الأحلام والآلام، المساومات والصفقات، التحالف والتآمر إلا وتم تطبيقها على أرض الواقع وأصبحت شعوب ودول الربيع العربي والمنطقة حقول تجارب ومناطق نزاعات وتصفية حسابات بين القوى العالمية وامتداداتها الإقليمية.
تداخلت السياسة بالاقتصاد، اختلطت الجغرافيا بالتاريخ، أزيلت حدود ونشأت غيرها، ظهرت قوى واندثرت أخرى وصيغت خرائط متعددة الأنواع والاستخدامات والأهداف، واختلقت مناطق نفوذ هنا وهناك بقوة السلاح والدماء في محاولات لا زالت مستمرة لكتابة فصل جديد في تاريخ المنطقة، ولسنا بحاجة هذه المرة للبلاشفة الروس لكشف الخيوط والحدود والأبعاد والأطراف المشاركة، فالأمر يجري دون مواربة وفي بث مباشر يمكن للقاطنين في أقاصي الكوكب متابعته.
تابعت منذ عدة أيام تقريرا مصورا بثته إحدى الفضائيات عن طفلة سورية صغيرة تعيش في بلدة سراقب في ريف إدلب السورية، بعد تهجيرها وأسرتها من ريف حلب، تبلغ الطفلة من العمر 7 سنوات أي أقل من عمر الربيع العربي، ورصد التقرير تفاصيل يوم في حياتها وطريقة عيشها واسمها من باب المصادفة المؤلمة «أمل» وكيف تقوم ببيع القهوة في شوارع البلدة لتعيل أسرتها المكونة من أبيها المريض المقعد والعاجز عن العمل وأختين لها بعد أن فرقتهم الحرب عن والدتهم لتتحمل تلك الطفلة الصغيرة فوق عاتقها وجسدها الهزيل مسؤولية الأسرة وإعاشتها، أعدت مشاهدة التقرير مرات ومرات وفي كل مرة يتجدد ويتزايد بداخلي الألم والحسرة من الأوضاع المرعبة التي آلت إليها الأحوال في وطننا العربي، لتتحول حقوق أطفالنا وهم المستقبل إلى أحلام صعبة المنال، انحصرت أحلام الصغيرة في الذهاب إلى المدرسة واللعب مع أقرانها وشرحت في كلمات خرجت مليئة بالمرارة وبقدر ما أسعفتها ذاكرتها ووعيها الطفولي بأن وضعها لا يتحمل هذا الترف، فهناك أولويات لها الأسبقية ومسؤوليات وواجبات عليها القلق أكثر بشأنها، لتحاصرني الأسئلة عن مدى القهر والتشويه الذي يستهدف حاضرنا ويعمل على سحق مستقبلنا، حين يصبح من الصعب إن لم يكن المستحيل علينا التفريق بين الحقوق والأحلام، وترتبط الآمال بالآلام برباط وثيق، وكأن العالم بأسره قد تآمر على تلك الصغيرة البريئة ليسلبها حقوقها ويسحق أحلامها ويقلب مراحل حياتها رأسًا على عقب، لتبدأ في طفولتها ما يجب أن يكون في شبابها في الظروف الطبيعية.
ربما تكون تلك الأسرة الصغيرة المغيبة والمنسية في غياهب وسراديب المعاناة والأهوال الواقع تحت وطأتها أهلنا في سوريا هي تجسيد مصغر لمعاناة الربيع العربي بأكمله في سوريا، والتي أعتبر ثورتها أم ثورات الربيع العربي رغم عدم سبقها في الخروج إلى الشوارع والساحات، للمطالبة بالحرية والعدل والمساواة، ويرجع هذا كون الثورة السورية جمعت دون غيرها من بلدان الربيع العربي بين طيات أحداثها وتطوراتها كل المراحل التي مرت بها باقي شعوبه، فعلى أراضي سوريا دون غيرها كل القوى العالمية والإقليمية لها تواجدها وامتداداتها الواضحة للعيان على الأرض دون رتوش أو أقنعة، كل التوجهات السياسية والمدارس الفكرية لها أذرعها العسكرية وتتصارع في ما بينها على الأراضي السورية في حرب ضروس شعواء، تتغير وتتبدل ملامح تحالفاتها وتفاهماتها بوتيرة تجعل من الحليم راجح العقل حيران، لكن يبقى القاسم الوحيد المشترك أن الشعب السوري هو الذي دفع وسيدفع الأثمان وحده وهو الخاسر الأكبر مهما كانت النتائج والعواقب، وبغض النظر عن الطرف المنتصر، فما يحدث الآن هو صراع على تقسيم الغنائم وللشعب الثائر المهجر المغارم. الصغيرة أمل ومن يشبهونها من ضحايا أنظمة القمع والاستبداد هم بمثابة جرس إنذار أن خصوم وأعداء الأمة العربية اختلفت ألسنتهم وقومياتهم وأعراقهم وثقافاتهم، لكن اتفقوا في ما بينهم على جعل الأراضي العربية الميدان الأكبر لصراعاتهم وخلافاتهم بما فيها ومن فيها، وأنهم لم يعودوا يكتفون بالحاضر، بل يستهدفون تجريف المنطقة من مقومات وعوامل المستقبل، وهل يمكن العبور للمستقبل ومجابهته دون العامل البشري وفي القلب منه أطفال اليوم الذين سيصبحون قادة الغد في مختلف الميادين.
{ (يتبع)
بقلم: جمال الهواري
copy short url   نسخ
29/08/2019
1481