+ A
A -
باحت الصناديق بأسرارها في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية التونسية وأسفرت عن صعود كل من قيس سعيد بنسبة تفوق 18 بالمائة من مجموع الأصوات ونبيل القروي الذي نال ثقة 15 بالمائة من الأصوات، وكان للنتيجة المعلنة ارتداداتها السياسية التي مست أطراف شتى بما يوحي بإعادة تشكل المشهد السياسي التونسي في قادم الأيام.
لم يكن قيس سعيد المرشح الأكثر حظا في الفوز من الشخصيات السياسية ذات الحضور الإعلامي أو المدعومة من لوبيات اقتصادية أو أحزاب سياسية، وإنما هو مرشح مستقل اختار أن يخوض المعركة الانتخابية بطريقته الخاصة، حيث اكتفى بالتواصل المباشر مع الجمهور في المقاهي والمنتديات العامة دون مهرجانات انتخابية ضخمة أو دعاية مبهرة. سلاحه قدرة خطابية باللغة الفصحى وتجنب الوعود المستحيلة واحترام الهوية العربية الإسلامية للشعب دون خوض في صراعات إيديولوجية أو استفزاز للضمير الشعبي عبر شعارات حداثوية مسقطة من خارج البيئة.
وإذا كان قيس سعيد قد ركّز على نظافة اليد والانطلاق من سجل خال من أي ماض سياسوي أو أي ممارسة سلطوية، فإن منافسه في الدورة الثانية ونعني به نبيل القروي القابع حاليا في السجن بتهم تتعلق بالتهرب الجبائي قد استفاد من نفوذه الإعلامي وتمكّنه من أساليب الدعاية والإشهار، وهو المالك لإحدى القنوات التلفزيونية الخاصة، بالإضافة إلى توظيفه للنشاط الخيري لكسب قلوب الناخبين في المناطق المحرومة.
وبغض النظر عن مآل التنافس في الدورة الثانية للرئاسية، فإن الأكيد أن الانتخابات في دورتها الأولى قد خلّفت ارتدادات هائلة، أهمها سقوط مرشح منظومة الاستبداد المدعوم إماراتيا، ونعني به عبدالكريم الزبيدي، رغم ما تم تسخيره من دعاية هائلة وإنفاق مالي واسع من أجل ضمان فوزه.
لقد كذّبت خيارات الناخب التونسي توقعات القوى النافذة في الدولة العميقة وأجبرتها على الاعتراف بهزيمتها من خلال ما يظهر من هستيريا ردود الأفعال التي أظهرها رموز هذه المنظومة بالنظر لحالة الخشية التي تنتابهم من فشل مماثل في الانتخابات النيابية التي ستجري الأيام القادمة.
إن محاولة فهم ما جرى يكشف عن تحول حقيقي في مزاج الرأي العام التونسي الذي لم يعد معنيا بصراعات الإيديولوجيا أو شعارات الدولة الوطنية بمقولاتها المتكلّسة التي تتدثر برداء «البورقيبية»، فغالبية الناخبين من الشباب المدرسي والجامعي والمعطلين من حملة الشهائد العليا انحازوا إلى خيار التغيير الجذري من خارج النخبة السياسية المهيمنة حاليا بحثا عن البدائل الأفضل. ورغم ما يعتبره البعض غموضا يحوط برامج المرشح الأبرز قيس سعيد، فإن الأكيد ومن خلال تصريحات الرجل أنه حريص على علوية القانون واحترام القيم الإسلامية التي يتبناها المجتمع التونسي إلى الحد الذي جعل القوى المحسوبة على العلمانية المتطرفة تسارع إلى تصنيفه شخصية سلفية متطرفة في نوع من التشويه المتعمد أمام الرأي العام الدولي الذي يتصرف بحساسية لكل ما يمت للإسلام بصلة. لقد كشفت هذه النتائج عن مدى حيوية الديمقراطية التونسية من جهة واستعداد الناس لتجديد الوجوه التي يمنحونها ثقتهم، ومن ناحية أخرى فضحت مدى العجز الذي تعانيه الأحزاب السياسية التونسية بكل توجهاتها الإيديولوجية والأحزاب الممولة خارجيا، ورغم محاولة هؤلاء تصدير الأزمة إلى الشارع وتوصيفه بالجهل، فإن الفشل تتحمله الأحزاب بما تصدّره لأتباعها من أوهام وما سببته من نفور الناس عن النشاط الحزبي دفعهم إلى البحث عن وجوه وبدائل مختلفة غير مأمونة العواقب. أصلا فكرة الحزب السياسي ترتبط بكونه الحاضنة التي تصنع الناشطين وتسمح بتجديد الدماء داخل الطبقة السياسية، وهذا ما عجزت الأحزاب عن القيام به.
غير أن ردود أفعال جزء من النخبة السياسية لم يخرج عن إلقاء اللوم على الشعب كالعادة، متناسين أن الشعب الذي ثار يوما خارج الأطر الحزبية على الاستبداد ومنظومته السياسية لا يهمّه اليوم أن يتجاهل جميع الأحزاب وأن يخلط جميع الأوراق بما يعيد تشكيل المشهد السياسي من جديد.
بقلم: سمير حمدي
copy short url   نسخ
20/09/2019
47644