+ A
A -
إنَّ المشكلة الحقيقية تكمن في أنَّ كلينا ينتمي إلى عالمٍ نصنعه كل يوم بحسب توقعاتنا وإسقاطاتنا والسيناريوهات الغنوصية التي نداريها عن الكل لنقرأ الآخرين ودُنيانا المتبقية بعدهم من منظورها. إن أغلبنا لا يزرع الشوك أبدًا، بل يسقي الحياةَ بكل ما لديه من قلب وروح، ويَجدُل الخير في دنيا الناس منتظرًا خيرَ الجزاء يومًا، وإذا به ينتهي إلى الشوك في طريقه جانياً إياه بعد زرعٍ طويل. كيف لمن لا يزرع إلا السعادة والعطاء والخير في الآخرين ويُؤثر هذا وذاك وهؤلاء على ذاته، كيف لهُ أن يجني بعدها شوكًا ومرًا؟
هو تساؤل بديهي يجول في خاطرنا عندما يُسيء الآخرون لنا بشكل أو بآخر رغم إحساننا إليهم. واعلم عزيزي القارئ أنَّ الأمر نسبيٌ جدًا وحساس، فبعض ما يراه الآخرون من خارج الحالة الماثلة (الصندوق) عاديًا جدًا يجده صاحب العلاقة مؤلما جدًا ويعود ذلك قطعًا لمبالغته التوقع من الآخر الآخرين في الخير وتوقعه أن يكونوا مرآته العاكسة إذا ما انعكست الآية وأصبح الطالب لا المطلوب، المُنتظِر لا المنتَظَر منه. طبيعي جدًا أن أنحو الآن وأتشدق في هجومي على كل من كسر قلبًا وروحًا كانت تنتظر مزيدا من الكرم في العطاء والبذل في أيّ شيء كان، لكني على نقيض ذلك تمامًا، أتوجه لأنموذج الفريسة الجاهزة للأوجاع والانتكاسات، لهذا الشخص الذي يُربي كل يومٍ وكل لحظة توقعاته المبالغة من الآخرين، رغم أنه يدري أنه ليس منهم وليسوا منه، وإن كان منهم فأصابع اليد الشقيقة ليست سواء، فما باله بأولئك المتنافرين عنه بيولوجيًا وأسريًا؟ إنه بهذا ألفِعل وكثيرنا يقع في هذه الفئة في بعض حوادث الحياة يكون قد تسبب بألم مسبق لذاته دون أن يشعر، والأسوأ من ذلك أن يقع في ذات الخطأ مرارًا وتكرارًا دون مسبق شعورٍ بذنبه تجاه نفسه.
أعرف أنَّ كثيرًا منّا يستشعر في قرارة ذاته مسؤوليته الضمنية اتجاه الآخرين، يَشعر أن لديه إلزامًا قهريًا اتجاههم فيمد لهم يد العون حتى دون أن يُطلب منه ذلك، حتى يصل الأمر لنوع من الرضا عن الذات إذا ما تحصَّل له ذلك، فتجد البعض يقدم النصح والتوجيه، ويلوم هذا ويضمّ ذاك، يحيك سيناريو تصحيحي كما يراه لحياة الآخرين، في معنوياتهم الكثيرة والمعقدة قبل تفاهة الماديات الصغيرة.
إن الإحساس المبالغ بالمسؤولية تجاه الأقربين وتجاه الدائرة الخاصة الفردية إحساس فُسيفسائي راقٍ جدًا. وعليه، فتبعاته العاطفية كبيرة جدًا! وعلى أصحاب تلك الفئة أن يتراجعوا قليلًا ويتمهلوا في اندفاعهم اللامحدود تجاه من حولهم من مقربين. وإني لا أدعو إلى القطيعة، حاشا لله، إنما أدعو إلى ما يسمى بمنطقة الأمان في العلاقات البشرية، فبرأيي أكثر من يهمهم أن يتجهوا إلى المنطقة المحايدة في البذل والعطاء وتوزيع المشاعر الحارة هم أصحاب هذه الفئة. فمنطقة الأمان أحفظ لهم كثيرًا خاصة وأنّ هذه الفئة أدمنت مبالغة التوقع من الآخر، أو حتى مماثلة ردة الفعل بردة فعلهم إذا ما وُضِعُوا في نفس الموقف. ومنطقة الأمان هي المنطقة التي تجعل الشخص يتعقل أكثر في بذله واستجابته الخفية لحاجات الآخرين، ويجعله يعطي أقل من اللامحدود في فعله السابق في كل الأحوال.
ومن العطاء الكريم جدًا تأتي مسألة إبداء الآراء، فإننا نعيش اليوم في مجتمعات متحضرة كما تزعم مجتمعات متداخلة، عليها أن تعيش ببحبوحة وسلام بعيدًا عن طيوف البربرية والتخلف. وعليه، فإن احترامنا واحتواءنا للآخر عليه أن يشمل جانب احترامنا لآرائه وتوجهاته.
إنَّ التعصب المطلق للرأي والحدية والتشنج اتجاه آراء الآخرين يمنع الإنسان من الانفتاح على الرأي الآخر، واستماعه والاطلاع عليه والتمتع بجمال الاختلاف تماما مثل جمال الاتفاق والمعية، وربما كان المخالف هو صاحب الرأي الصحيح والصائب. ثمَّ أن ذلك قد يجعل الإنسان في موقف حرج مستقبلاً، إذ قد يتبين له خطأ رأيه، فكم من إنسان تراجع عن رأيه، وتغيرت قناعاته؟ وتلك حالة طبيعية قد تحصل للإنسان تجاه مختلف المسائل والقضايا، فحينما تعتقد أحقية رأي معين، وتجد آخرين يخالفون هذا الرأي (الحق) في نظرك، فإنَّ عليك قبل أن تتهمهم بالعناد والجحود والمروق، وأن تتخذ منهم موقفاً عدائياً، عليك أن تتفهم ظروفهم وخلفية مواقفهم، فلعل لديهم أدلة مقنعة على ما يذهبون إليه، أو لعلهم يجهلون الرأي الحق لقصورٍ في مداركهم ومعلوماتهم، أو لعلهم يعيشون ضمن بيئة وأجواء تحجب عنهم الحقائق، أو لعلّ هناك شبهات تشوّش على أذهانهم وأفكارهم، واتجاه مثل هذه الاحتمالات فإن المطلوب منك ومنا جميعا دراسة موقف الطرف الآخر، ومعرفة وجهة نظره، والدخول في حوار موضوعي معه، ومساعدته على الوصول إلى الحقيقة، وقبل كل هذا علينا أن نُبدي رأينا إذا ما طُلب منا، فالكثير يسكب رأيه على كل موقف (لخيرٍ) يقصده، لكن الكثير في المقابل لم يطلب هذا الرأي وليس له آذان صاغية في ذلك الحين ليسمعه!
وحتى لا أحمّل هذه الفئة (الكرماء في العطاء) الكثير، علينا أن ندرك جميعًا أن الدين والعقل الإنساني السليم (العقل ألفِطري) يُجبلنا بشكلٍ مباشر على الشعور بالآخرين، وإكرام المحسن الصادق أيًا كان فعله. فذاك من شيم الكبار في كل شيء ولَـعَمْري تلك هي المروءة ذاتها. وبالتالي فلا ضِرار هاهنا إذا ما استوت الموازين والكفات وكانت الدَقة الطيبة تقابلها الدَقة الطيبة، فلا وجودَ لابتذالٍ في العطاء ولا لتوقعٍ زائد، الأمر الذي يَحفظ كثيرًا من المشاعر ويصون الكرامة ويُصفي بها القلوب ويَحمِد عليها النوايا والذمم.
{ إعلاميَّة وباحِثَة أكاديميَّة- جامعة قطر
بقلم: خولة مرتضوي
copy short url   نسخ
12/10/2019
2548