+ A
A -
من الركائز الأساسية في أي نظام مستقر مهما كان توصيفه، هو بقاء القوات العسكرية وشبه العسكرية بمختلف تخصصاتها أو ما يعرف اصطلاحًا بوسائل الإكراه الشرعية، خاضعة للقيادة السياسية وبعيدة عن العمل السياسي بأي شكل من الأشكال،
بالإضافة لمهمتها المقدسة في حماية حدود الدولة بما فيها ومن فيها، تكون الضامن لاستقرار واستمرار النظام السياسي لا المتحكمة فيه والمكونة له، وأن تكون ورقة ضمن أوراق القوة للدولة للضغط السياسي في سبيل الوصول لأهدافها المشروعة وحمايتها داخليًا وخارجيًا لا أن تكون قوتها هي الصك الذي تستخدمه لحكم الدولة والسيطرة على مفاصلها.
من أشهر مقولات الجنرال والمؤرخ العسكري الألماني -البروسي- «كارل فون كلاوفيتز» ضمن كتابه الأبرز والمرجعي للكثير من الساسة والعسكريين والأكاديميين على حد سواء حتى يومنا هذا (عن الحرب)، مقولة «الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى» والهدف منها هو جعل العدو ينفذ إرادته أي إرادة المنتصر، وبالتالي تقاس مدى جدوى تلك الحرب، سواء تم خوضها فعلًا أو التلويح بها ضمن أوراق اللعبة السياسية بالنتائج المترتبة عليها وما تم تحقيقه من معطيات على أرض الواقع وتغييرات لصالح الدولة وشعبها، وهنا النقطة المفصلية والهامة التي تقيس بها الشعوب بفطرتها مدى نجاح المؤسسة العسكرية في تحقيق واجباتها والمهام الموكلة إليها وأيضًا يجعل لديها القابلية أن يحصل أفرادها ومنتسبوها على بعض الامتيازات من منطلق تعرضهم للمخاطر في سبيل الحفاظ على الوطن ومقدراته، وفي نفس الوقت يصبح أي تهاون من المؤسسة العسكرية وقت المخاطر والأزمات بمثابة جرم لا يغتفر ويضع الثقة فيها محل تساؤلات وشكوك تتنامى بشكل تراكمي يؤدي مع الوقت للوصول إلى مرحلة فقد الثقة نهائيًا فيها، وهو ما يعني بدوره قطع خطوات واسعة في طريق سقوط وانهيار الدولة بأكملها، وتزداد المشكلة صعوبة عندما تختلط العسكرة بالسياسة ويسكن الجنرالات قصور الحكم ويتحكمون بكافة خيوط اللعبة السياسية، بدلًا من البقاء في مكانهم الطبيعي ضمن المؤسسة العسكرية، هذا الخلط وتلك السيطرة تدفع باتجاه استفسار وتساؤل محوري ومشروع مضمونه ما جدوى هذه المؤسسة أو تلك إن كانت لا تقوم بمهامها في حين تحصل على كافة امتيازاتها وحقوقها؟، وماذا تريد المؤسسة أكثر مما تسيطر عليه بالفعل للقيام بدورها؟، وكيف تلتزم الصمت والتراجع حين تتعرض الدولة لخطر حقيقي يتهدد حياة مواطنيها؟، وما يزيد الطين بلة والحنق درجات أن تكون المؤسسة طرف سلبي في تلك المعادلة البالغة الخطورة.
وحتى في أوقات السلم تجد الشعوب وخصوصًا في المنطقة العربية تنظر بعين التقدير والاحترام لقواتها المسلحة وهو أمر مقبول في سياقه الطبيعي، ولكن في بعض الأحيان يخرج عن الإطار وتحاول بعض الأنظمة التي تستمد شرعيتها بقوة السلاح تضخيم هذا الدور والمبالغة فيه وتستغل لتحقيق هذا موروثات تاريخية ومجتمعية جعلت من المؤسسة العسكرية في مرتبة أعلى من غيرها من المؤسسات، وهو أمر واقع رغم كونه خاطئ، فالدولة تنهض وتستمر بمؤسساتها كافة لا بمؤسسة بعينها، وبالتجربة ثم التيقن والإثبات أنه كلما تم تحجيم دور القوة العسكرية وحصره في واجباتها المنصوص عليها دستوريًا في الأوضاع الطبيعية، وليس في ظل الدساتير والقوانين التي تصاغ تحت حكم عسكري أو ديكتاتوري، كلما كان هذا أفضل وفي الصالح العام، ويصبح من الخطورة بمكان أن تسيطر المؤسسة العسكرية على مفاصل الدولة بقوة السلاح وتستثمر التاريخ عبر الارتكاز على شرعية نصر عسكري أو شبه عسكري قد حدث في وقت سابق، وبناء على هذا يتصرف قادتها والمتحكمون فيها وكأنه من الطبيعي توارث هذا النصر والارتكان إليه دون النظر للواقع الحالي وما استجد من متغيرات أدت لبروز مخاطر جديدة تسبب فيها العسكريون أنفسهم عبر إغراق المؤسسة العسكرية في مستنقع السياسة وتحولها للاعب أساسي فيها على حساب الدور التقليدي لها.
{ (يتبع)
بقلم: جمال الهواري
copy short url   نسخ
12/10/2019
2128