+ A
A -
بقلم :
د. سعـــاد دريــر
كاتبة مغربية
كم هُم تُعَساء هؤلاء الذين أَشْقَتْهُم الحياة وجَرَّدَتْهُم من رائحة رغيف الحُبّ وكُوبِ شاي الإحساس بالحياة قبل أن يَبردا معا ويُعَجِّلا بكتابة قصيدة رثاء!
وأيّ رثاء؟!
إنه الرثاء الذي يُوَقِّعه القَدَر بأصابع يَلين لها الحديد، إنه الرثاء الذي يَشتهي لِبَذلته الرسمية فأرَ تجربةٍ آخَر يلعب دورَ البطولة في مهزلة حزينة النهاية..
صَدِّقْ يا صديقي أَلاَّ فأرَ هنا ولا بَطَلَ غير تعيس الحظ هذا المدعو الإنسان!
قد يَحدث أن يَخطر على بالك فلان..وفلان.. وفلان.. لكن دَعْكَ تُحَلِّق معي في اتجاه الأعالي الصامدة أرواحها، فلا شك أن مِن هنالك ستَسمع صرخة الانتصار على الحياة..
وهل هناك مِن انتصار على الحياة؟!
وكيف في وسعك الانتصار على الحياة حتى تَترفع بنفسك اللوامة عن أن تَستسلم للسقوط في حفرة الحياة تلك التي لا يَنْتَشِلك منها غير قَرِين الروح التواقة إلى الصعود..؟ !
لا أَعْرِفُ لِمَ يُخَيَّلُ إلىَّ دائما أنَّ أَشْقَاهُم ما كان لِيَخرج مِن قميص الْمُعَذَّب فينسنت فان كوخ Vincent van Gogh ذاك المعدم الذي نشأ بين قضبان زمن حقير لا يُنصِف الفقير، لكن سأحكي لك اليوم يا صديقي حكاية أخرى ماطرة العينين تُشَيِّعُ حياة واحد من هؤلاء المعذبين..
لِنَقُلْ إنه المسكين توماس تشاترتون Thomas Chatterton..
صحيح، شَتَّانَ بين فينسنت فان كوخ وطوماس تشاترتون! لكنْ لِنَقُلْ إن ما فَرَّقَتْهُ بعيدا عنهما الأيامُ قد صَيَّرَ القاسمَ المشترك بينهما لَعْنَة، لعنة الإبداع ذاك الذي تَجَسَّدَ فَنّا تشكيليا في حالة فينسنت فان كوخ، بينما وقفَ شاخصا لطوماس تشاترتون في صورة قرين يُلْهِمُه الشِّعرَ ويُغَذِّيه قريضا في وقت استعْصَتْ فيه اللقمة الهاربة بعيدا عن فَمِه..
الأسوأ من كل هذا أن ما عَمَّقَ رابطة الأخوة بين البطلين المعدمين هو اشتهاؤهما لتصفية حسابات الحياة بعيدا عن موطئ قدمَي الواحد منهما، لماذا؟! لأن كلا منهما آثَرَ أن يُعَطِّلَ محرك السفينة ويلقي بنفسه عاريا في حضن البحر..
أَقُلْنَا البحر؟!
نَعم، نَعم يا صديقي، صَدِّقْ أنه بحر اللاحياة ذاك الذي تَرتمي بين ذراعيه حالفا ألا تُبْدي أسفا ولا اعتذارا عما أخذَتْه منك الحياة..
فينسنت فان كوخ وطوماس تشاترتون كلاهما فضل ترك حلبة الحياة لِهاوٍ مبتدئ، كلاهما تقاعد عن الحياة بعد أن استدرجته إليها غواية الرغبة في المغادرة الطوعية تلك التي تَقول للورد: اِرْحَلْ بعد أن بِعْتَ عطرَكَ..
غير أن الغريب في الأمر هو أن هناك ما هو أكثر ألما من رحلة فينسنت فان كوخ الذي كان يبدو لنا عمرُه (37 سنة) أقصر مِن أن يُسعفه في بلورة أنفاسه الإبداعية ليَصُبَّها في قوالب فنية لا تُخطئها أذواق النقاد المثَمِّنين للوحاته بعد زمن طويل مضى بعد موته..
إن أبشع ما يمكن تخيله هو أن يتوقف قطارُ الحياة بطوماس تشاترتون في سن 18 سنة، ولْتُخَمِّنْ يا صديقي في جرعة ماء تَكفي لابتلاع فكرة أن شابا لم يفتح لربيع العمر بابا يرتئي أن يقفز من النافذة رافضا أن يضيع المزيد من الوقت في انتظار الخلاص على يَدَيْ «غودو» هذا الذي لن يأتي مطلقا..
إن انتحار فينسنت فان كوخ وطوماس تشاترتون إنما يؤكد حقيقة أن الفقرَ كُفرٌ، الفقر وباء، ولْيَكُنْ من ثمة أبشع طاعون ذاك الذي يَفتك بصِحَّة الجيب، فإذا بهذا الأخير يغدو رَثّا مُهَلْهَلا من فرط الخواء..
كم يُعذبنا يا صديقي أن نتذكر أن فينسنت فان كوخ ظلّ يجاهد ويناضل ليقنع صاحب مطعم بأن يتقبل منه لوحة فنية كان قد أرهقه تشكيلها ليسمح له السيد بأن يُعفيه من ثمن الوجبة التي تناولها فيه!
كم يُهَيِّجُنا السخطُ حرقةً على موهبة يُمَرِّغُها الزمن في وحل الجاهلين ونحن نتأمل صورة المسكين طوماس تشاترتون وهو يَنسب أشعارَه المتقدمة على عمره إلى أكثر مِن قِسِّيس واسم مستعار لا يوجد في أرض الواقع استجداءً لشيء مِن المال الذي استكثرته عليه الجرائد الهزيلة التي كانت تَستفيد من تفوقه الشعري دون أن تَصرف له مقابلا ماديا يَحفظ ماءَ وجه الشِّعر!
شقاوة الأنثى حَكمتْ على فينسنت فان كوخ بأن يعيش منبوذا بعد أن رفضته واستكثرت عليه أن يَكون رجُلا تَعشقه النساء، فما بالنا والأنثى هذه امرأة وحياة!
والحياة نفسها تُذِلُّ الصغير طوماس تشاترتون ذاك الذي جَثَا وبكى على مشارف أبوابها، لكنها الخائنة لم تفتح له بابا ولا نافذة، بل عبسَتْ في وجهه وقد آثرت ألا تنخرط معه في لعبة الحوار..
الهولندي فينسنت فان كوخ يشتهي لانتحاره عيارا ناريا لينهي بؤسَ حياته دفعة واحدة. أما الانجليزي الشقي طوماس تشاترتون، فإنه يتفنن في انتقاء ثوب الموت، ويتلذذ بتعذيب نفسه مرة أخرى أكثر مما عذبته الحياة، لذلك يشاء أن يبتلع السّمّ ليَموت بِمِزاج..
لوحة «ليلة النجوم» لا تخرج عن كونها شاهدا على الجريمة النائمة.. صَدِّقْ يا صديقي أنها جريمة الانتحار التي كان صاحبنا فينسنت فان كوخ قد بَيَّتَ نيتها وخطط لها مُقْسِما أن يبعثر أوراق الحياة..
في هذه اللوحة التي اعتبرها أهلُ الفن من أجود ما شخصته ريشة فينسنت فان كوخ، يخبئ المسكين شهادة وفاته بعد توسله بأكثر من إشارة ورمز يوحيان ببداية العصيان، ولْتَنْظُرْ، ولْتَنْظُرْ هنا يا صديقي إلى النجوم المنطفئة في حياته الواقعية وقد أضاءت في لوحته كما لو كانت مُنْذِرَةً بليلة الوداع، أضف إلى ذلك رمزية شجر السّرو الذي زَكَّى الاعتقاد باللحظة الفاصلة بين الموت والحياة..
إن في عدد من الثقافات ما يؤكد ارتباط أشجار السّرو بعالم الموت ذاك الذي يَزفّ عطرها إلى ما تحت الأرض بعد أن يُسَوّرَ العطرُ فضاءَ المقابر..
وعندما نُفكر في مناسبة النص البصري، سنجد أن فينسنت فان كوخ قد رسم لوحته الثمينة «ليلة النجوم» وهو على مشارف الموت، يكفي أنه انشغل برسمها وهو طريح الفراش بالمستشفى بعد أن نالت منه نوبات الصرع تلك التي كانت تُجَنِّدُ دماغَه للدفاع عن حق الفن في الحياة بعد أن تَعَذَّرَ حق فينسنت فان كوخ في الحياة..
في ظل هذه الظروف غير المشجِّعة على الحياة، كان الاكتئاب والألم النفسي قد بَلَغا بالفنان مبلغ البرمجة للزُّهد في الحياة والثورة عليها ثورةً بَنَّاءة للفن وإن كانت هَدَّامة للنفس..
من هنا، فقد كان من الطبيعي أن يُعَبِّئَ فينسنت فان كوخ لوحته تلك «ليلة النجوم» بدلالات جدلية الموت والحياة، وقد بدا الأمر واضحا حتى على مستوى الألوان التي انتقاها الفنان للوحته الجمَّاعة لألوان المرض والحياة..
على أن اللوحة تلك لا تُخفي حالات الهلوسة التي كان يرى فيها فينسنت فان كوخ بعقله المريض آنذاك ما يَراه الفارّ من قبضة قميص المحكوم عليهم بالجنون، وإن كُنَّا نتفق كما يتفق المبدعون (الخارجون عن قانون الحياة كما يَحياها الآخرون) على أنه الجنون الخلاَّق ذاك الذي يَضمن لك مقعدا في طائرة الحُلم بالجنة كما قد تَتهيأ لأهل الفن التوَّاق الواحدُ منهم إلى عِناق رَبّات الجَمال الفني العابر بعينك الفنية سَريرَ اللذة التي تَطيب لعاشق مسكون..
إنه الجنون يا صديقي، والجنون أشهى ما يتمناه مريض بالفن، مريض هو كل ذنبه أنه يجتهد بحواسه الظاهرة والخفية لينعكس إحساسُه بالذات وبالحياة انعكاسا مِرآويا في أعماله الفنية تلك التي لا يَقوى على تَصَفُّحِها بعين المجهر سِوَى توأم الروح الفنية ذاك الذي يتعمق ويَشرَح وَيُشَرِّح ويُحَلِّل ويُناقِش..
«ليلة النجوم» تختزن من الإرهاصات ما يُؤَهِّلُها لتَرْقى مَرقَى رسالة خطية كان من الجدير بمَن يهمه أمر فينسنت فان كوخ أن يفكّ شفرتها ليتنبأ برغبة فان كوخ في قطع الحبل الذي يربطه بالحياة..
والغريب يا صديقي، أن فينسنت فان كوخ الذي أُصِيبَ بتخمة من الموائد النفسية، تلك التي كانت تنتظره في المصحّات العقلية والمستشفيات الباحثة عن حل للتصرف في وطأة الاكتئاب الذي كابَدَه، يستجمع كُلّ قواه العقلية في لحظة مُكَاشَفة ليقرر أوانَ وقت الانصراف إلى أبعد ما يمكن من عُلبة الحياة الضيقة هذه التي تَعتصر الروحَ المنصهرة فوق صفيح ساخن يَدفعك إلى أن تتجرع بشكل هستيري جرعات الحزن الذي لا يَرضى بأن يَضربَ للفرح موعدا يُذْكَر..
غير أن الجنون يزداد وَقْعُه شِدَّةً عندما يُؤَجِّجُه طغيان وهَذَيان مارد الفقر، والفقر ما أقساه حين يمتصّ الدفءَ من أضلعك ويُجبرك على أن تَمْضِيَ مُضِيَّ الحُفاة العُراة في اتجاه حفرة اللاموت واللاحياة تلك التي يُفَصِّلُها قَدَرُكَ على مقاس جنونك الإبداعي المحفِّز على الموت أكثر مما يُشَجِّع على تَقَبُّل طَبَق الحياة البائِت!
هكذا شَعرَ فينسنت فان كوخ الذي أصبحت لوحاته اليوم تُباع بأرقام خرافية، وهكذا بالْمِثل شَعرَ زميله في مدرسة الإبداع طوماس تشاترتون الذي لَوَّنَه الحزنُ بلون الكآبة، وأفلح في أن يَدَّخِر لحضارته باقات من الشِّعر الذي ثَمَّنَهُ لاحقا أهلُ الأدب والنقد وصَيَّروه ثروة حضارية، ومتى؟! بعد أن سَمَّمَ صاحبُنا نَفْسَه ليَموتَ موتَ جرذٍ قَذِر..
ومَن كان لِيُصَدِّقَ أنْ تَكون هذه نهاية شاعر كتبَ في طفولته ومراهقته ما يستعصي على أن يُلْهَمَ به شاعر ناضج في غير زمنه؟!
لكنه الفقرُ يَقول كلمتَه ويَزجّ ببطلنا الرقيق في سجن الكُفر المؤبَّد.. وهَيْهَاتَ، هيهات له أن يتخلص منه إلا بالتضحية بالحياة!
الفقر والحزن غيمتان ما تَركتا لشاعرنا الصغير فرصةً للنجاه هو الذي افتقد يَدَ الأب الطاهرة قبل أن يُغادِرَ رَحِمَ أُمِّه التي غلَّفته وهو جنين بغشاء سميك من السخط على الحياة بسبب الفقر دائما..
مناخ نفسي كهذا الذي عاشته الأُمّ كان من الطبيعي أن يُرْهِقَ جنينا لا ذنب له سِوَى أنه ورثَ من الحزن ما لم يَرِثْه من المال.. وحين يتزوج الحزن بالفقر لن يُنجبا غير الجنون..
أن تَكون فنانا وشاعرا معناه أن تكون ينبوعَ مشاعر يُفتي فيها الإحساس الذي يُتوج صاحبه سيِّدَ الناس، لكنْ مهلا، فكونك مرهف الإحساس يَعني بالْمِثل أن تتدفق حرارةَ ألمٍ كما لو كنتَ نهرا من أنهار جهنم..
إنها جهنم الجاثمة هنا، على الأرض، جهنم التي تُفْضي بك إلى ساحة الجنون بعد أن يَشتد غليان النفس القابعة في أعماقك، تَحترق دواخلك، ولا أحَد، لا أحَد في وسعه أن يَجسّ نبضَ قِدْرِكَ لِيُطفئ شيئا من الحرارة..
copy short url   نسخ
02/11/2019
3047