+ A
A -
خولة مرتضوي
في سنواتِها الأخيرة، كانت جدتي عائشة رحمة الله عليها تُعاني من مشاكل صحية مختلفة، الأمر الذي ألزمني مرافقتها آناء الليل والنهار مقسمةً وقتي بين الجامعة والمستشفى والمنزل، وحتى أُخفِّف عنها آلامها وأوجاعها كنت أقُصُّ عليها مجريات اليوم وأتلو عليها بعضًا من الأخبار اليومية الهامة الخارجة من المطابخ الإعلامية، وبينَ كُل خبر وخبر كانت تحدِّقُ في المدى وتقول، معقبةً على أخبار الحرب والقتل والعدوان غيرها: «لا شيء أرخص من الإنسان في هذه الدنيا!» وتتلوها (بالحوقلة): «لا حول ولا قوَّة إلا بالله العليّ العظيم». ذاكرتي الضعيفة لم تنسَ هذه العبارة، ففي كُلِّ يوم وفي كل لحظة أقرأ فيها خبرًا عاجلًا أُدركُ كمّ أصبح الإنسان أضعف الأشياءِ وأرخصها في هذا الكون، وفي كلِّ مرة أسمعُ فيها حوارًا، أكونُ فيهِ طرفًا أو حتى أذنًا، ويتضمَّنُ وجهات نظرٍ قاسية لمدى استحقاق البشر لمآلات الحرب والفقر والعَوَز أتأكَّد أن الإنسانية أصبحت في وادٍ بعيدٍ جدًا عن الإنسان...نحن لا نرحم بعضنا أبدًا!
قالها شمسُ التبريزي في يومٍ ما: «لا شيء أسهل من الكراهية، أما الحُبّ فيحتاجُ إلى نفسٍ عظيمة»، نعم نفس عظيمة جدًا، لقد أصبحت الكراهية والبُغضُ شيئا يتبجَّحُ فيهِ الناس، فكيف يكونُ يا صاحِبي ألا تستنكِر بجوارحك كُلها قبلَ كُلِّ شيء: حادث قطار مصر الأخير؟ حريق غابات لبنان؟ مصرع الطفل (سوجيث) في جنوب الهند؟ وغيرها الكثير والكثير من الحوادث والأخبار القريبة جدًا والبعيدة جدًا على حدٍ سواء. كيفَ يُمكن أن يقولَ شخصٌ، مُعقبًا على أيِّ ألمٍ ونقصٍ وفقدٍ تكبده إنسانٌ من هذه البشريَّة أو حتى أمَّةٌ من الأُمم، تعبيرًا يُفهم منه معنى «يستحِق يستحقُّون»! (لا أحد يستحِقُ أن يَجري عليه أيُّ أذىً نهائيًا)، هذِهِ حقيقةٌ فطريَّة وإنسانيَّة بسيطةٌ جدًا، أن نتعبأ نتيجة ما تنشُرُهُ وسائل الإعلام التي تحمِلُ أكثر من وجه وصورة أو نتيجة ما يقومُ بهِ كافة الساسة في لعبتهم المكشوفة نحو تحقيق غاياتهم الغُنوصيَّة بأيِّ وسيلة من الوسائل، أو نتعبأ نتيجة بعض الأفكار (اللاإنسانية) حول أحقيَّة البشر في الحياة والحلم والأمل والتعبير فتكونُ المُحصِّلة قسوة في القلب وتجبُرًا على الإنسانية، فتجِد بعض الشخوص الشعوب بانتظار حادثٍ مؤلمٍ أو فاجعةٍ أو بلوى أو نازلةٍ وغيرها من صروفِ الدهر لتُلِم بغيرها؛ حتى تتشفَّى بها وتثأر لنفسِها، لماذا؟ لأن واحدًا أو اثنين أو مائة أو حتى مليونًا من شعبٍ من الشعوب خالفها في أمرٍ ما، أمرٌ قد يكون: موقفًا سياسيًا، خلافًا عرقيًا، دينيًا، أو حتى موقفًا خرجَ من لدُنِّ أحدهِم بشكلٍ قصدِي أو عابر، هذا العُذر القبيح أدَّى إلى نتيجة البُغض والكُره الفرديَّة والجماعية، للأبرياء قبل المذنبين بكثير.
إن قسوة قلبٍ واحد يُمكننا تجاوزها، على اعتبار أنَّ صاحبها يشكو مرضًا أو علَّةً في نفسِه، ولكن قسوة قلوبٍ كثيرة ومتزايدة بحجم الجماهير؛ تجعلنا نتساءل: هل ابتعدت عنَّا إنسانيتنا إلى هذا الحدّ الكبير؟ هل يحِقُّ لنا أن ننفِّس عن غضبنا أو عدم تفهمنا أو عدم قدرتنا على الاحتواء والتسامُح بأن نكرَهَ إلى حدٍ يجعلنا نرفُض أن نقول: (آمين) لدعاء الخير والصلاح والهداية لغريمنا ومناوئِنا وكاشحِنا. يقولُ اللهُ العليّ العظيم في سورةِ البقرة مقرِّعًا ومُوبِّخًا بنو إسرائيل على ما شاهدوه من آيات الله تعالى: ?ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَ?لِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ? وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ? وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ? وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ? وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ?، قال ابن عباس: «فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمل قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشدُّ قسوة من الحجارة». وقسوة القلوب هذه تعنِي ذهاب اللين والرحمة والخُشوع، وصاحِب القلب القاسي هذا لا يُميِّزُ بين الحَقِّ والباطل، ولا ينتفع بموعظة، ولا يقبَلُ نصيحة.
ما السبيلُ، إذن، لقلبٍ أكثر صلاحًا ولروحٍ محبة وسامية وودودة تُثمِرُ الإحسان والرحمة لخلقِ الله جميعًا؟ أعتقد أنَّ القسوة تُحارب بالرحمة واللين والرفق، وأعلم أنَّ للنفسِ إقبالًا وإدبارًا درجاتٍ ودركات، فأحيانًا يغضب الشخص فيقسو على غيره ممن لا ذنب له، لكن عليه أن يُعلِّي إنسانيته على صوتِ شيطانهِ الداخلي، يُقوم ما استطاع سبيلًا أيُّ فكرةٍ أو خاطرة تُصعِّر من حقِّ الناس، كُلُّ الناس، في الحياة وتستهِين وتتلَذّذ بمصائبهم.
يُنزَفُ الدمُّ البشري على اسفلتٍ باردٍ في كُلِّ ثانية من عُمر هذا الكون ووفقَ أسبابٍ مختلفة، وذلك في ساحة العرضِ الكُبرى وأمام مرأى الجميع: الأنظمة الحكومية المختلفة، جمعيات الإغاثة الإنسانية الدولية، وكالات الأنباء العالمية، الهيئات الحقوقية والقانونية، وغيرها، الجميع يُمارس صمتًا معينًا ويتشفَّعُ لأسباب واهية، ومع هذا الصمت الكبير، وفعل (اللاشيء) لوقف هذا النزيف، أليسَ من حقٍ بعضنا على بعض، أن نتراحم قليلًا فيما بيننا؟
{ إعلاميَّة وباحثَة أكاديميَّة- جامعة قطر
copy short url   نسخ
03/11/2019
2695