+ A
A -
داليا الحديدي
استخدمت شتى أنواع المواصلات للوصول لدرب المعرفة، فالمعرفة مكنونة في الحواري، ورديفة تجارب الأزقة، كما المعاني ملقاة بالطرقات الشاقة الوعرة. فبين العثرات نعثر على الخبرات. بينما كنت أجلس بعربة المترو، دخل عجوز ضرير يتكفف الناس، وظل يسأل الرُّكَاب بصوت رخيم يفوق عذوبة أشهر المذيعين في الإذاعات العربية.
ثم نزل ذو الصوت الأخاذ من العربة وتركني أموج مع تساؤلات:
- فكيف لموهبة صارخة كتلك أن تخبو دون أن يستفيد منها صاحبها؟
- أنقصه التوفيق؟
فقد نشأنا على أن النجاح حليف الدراسة وقرين أفيشات السينما، فندر من تعلم الحفر في منجم شخصيته لاستخراج ذهبه من تحت طينه، فأغلبنا سليل تعليم تلقيني، لا يفرز سوى موظفين لا يفكرون لا خارج الصندوق ولا داخله.
لاحقًا، جمعني القدر بنسوة أثبتن أن اختراق عوالم النجاح لا يحتاج صوتا رخيما ولا أضواء سينما، فقد تحولن لنجمات من باب المطبخ!
الأولى هي «داليا البدر» التي عشقت المطبخ بفضل جدتها كما أن والدتها كانت موهوبة في الطهي، أما داليا فلم تلمس في نفسها حب المطبخ سوى حين تعلمت عمل «الكريم كراميل» في مدرستها، فعادت لبيتها ونفذت الوصفة وشعرت مذ ذاك اليوم بأن شغفها مرتبط بالطهي، فابتاعت المجلات بحثًا عن الوصفات، ثم شرعت في تدوين ما يعجبها حتى صار لديها مجلد مصور، ثم عملت على تعديل الوصفات.
تجلت موهبتها بعد الزواج في العزائم، فاستمرت في هوايتها، لكنها رفضت دخول مجال «الكاترينغ»، وفضلت أنشأت صفحتها الشهيرة «دوندشة» لتعليم الوصفات، فلاقت شهرة واسعة، ما جعل الصحف والمجلات تتسابق لنشرها.
كم تشبه الموهبة عود الثقاب، فهو في علبته لا جدوى منه، سوى لو قام أحدهم بقدح العود لإشعاله. كذلك الموهبة قابعة في نفس الإنسان حتى تجد جدة أو أم، يشعلنها بتنبيه المرء لمكان وجود موهبته.
ونادرًا ما تلتفت العائلة لاستخراج موهبة أبنائهم من علبتها وإشعالها لتوعية الأبناء بأماكن التميز في شخصيتهم، بل يكتفون بالتعليم النظامي دون إرشاد صغارهم لمواهبهم.
في حالة داليا، لم يكن للجدة والوالدة -فقط- بصمات في مساعدتها، بل كان «لأدهم» ابنها الوحيد ولصديقتها «نرمين صدقي» أداوار فاعلة في دعمها.
- سنقابل الآف البشر في دروب الحياة، لكننا سنظل أسرى لتقدير من أعانونا على اكتشاف أنفسنا، ولن ننفر من أحد نفورنا ممن أحبطونا وأضلونا الطريق.
لذا، فلن يؤثر فيك أحد أكثر ممن أخبرك يومًا بصدق: استمر، أجدت، أحسنت، أبدعت، أقدرك،أراهن على نجاحك. وسيرسل الله لك يومًا جدة، أم، أدهم، نرمين صدقي أو أمثالهم ممن سيؤمنون بك وبموهبتك.
هم هدايا الرحمن، ملائكة بشرية، مستنطقين لإرشادنا لجادة النجاح.
أما «لمياء رجب» فتحدت الصعاب ووصلت لدرب النجاح، مباشرة بعيد رحيل والدتها، إذ لم تكن تخطت 18 عاما، وكان «رمضان» على الأبواب، فاضطرت لدخول المطبخ مستعينة بمشورة أمهات صديقاتها، فحازت الخبرة من أهلها، إلى أن جاء بوم واتصلت بها إحدى الصديقات، تستنجدها، فأهل زوجها سيأتون لزيارتهم، فما كان من لمياء إلا أن ذهبت، وأولمت لهم، فامتدت السفرة بأشهى الأطباق. وبدأ الجميع يشكرون في الطعام معتقدين أنه وارد من مطعم خمس نجوم. أخبرتهم صاحبة الدار أن «لمياء رجب» هي «كيترينغ»، هنالك صدمت لمياء كونها لم تكن تعلم معنى «كيتيرينغ»، فنتج من تلك العزيمة فكرة CHEZ LILI لتوريد الطعام في الحفلات والولائم.
أما «سمر سليمان»، صاحبة أشهر مركز متخصص في تعليم الحلويات، فقد بدأت مشروعها مباشرة عقب دخول ابنتها للجامعة، لوجود وقت فراغ لديها، وكانت وقتئذ لا خبرة لها في عمل الحلوى. فقد نتأخر في معرفة موهبتنا، فالمليح يبطئ. وجدت سمر تشجيع من والدتها، فبدأت تبيع في النادي ثم شاركت في «اوبن دايز».
ثم أنشأت صفحة على الإنترنت، بعد أن بدأت مرحلة صنع الكعكات الكبيرة إلى أن انتهت بإنشاء أكبر مركز متخصص في تعليم صنع الحلويات. كم هو مهم أن نرشد صغارنا للثقة في خياراتهم ليكونوا أنفسهم، فلو لم أجد من يرشدني لموهبتي في الكتابة، لربما كنت شوهدت يومًا بعربة بالمترو أتسول جنبًا إلى جنب صاحب الصوت الرخيم!
داليا الحديدي
كاتبة مصرية
copy short url   نسخ
09/11/2019
2192