+ A
A -
عندما يتعلق الأمر بالديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان تلقائيا يقفز إلى المخيلة وبإلحاح سؤال جوهري ومنطقي حول من الذي أتى بالحكومات في الدول الغربية إلى سدة الحكم كلا في بلده والتي تتخذ من تلك الأمور الثلاث حجج وذرائع عند الحاجة للتدخل شرقًا وغربًا، وفرض عقوبات مختلفة الدرجة والتأثير حسب ما تقتضيه المصلحة وأحيانًا إعلان الحرب أو التلويح بها،
والمفترض أنها دول تتمتع بمنظومات حكم ديمقراطية بأشكال متعددة، لكن تتفق جميعها في أن قرارات انتخاب وتشكيل تلك الحكومات تتحكم به شعوبها ولها الكلمة الفصل في استمرار هذا النظام أو ذاك من عدمه، إذًا القرار بيد تلك الشعوب التي تؤمن بالديمقراطية وحق تقرير المصير، فلماذا لا تنتهج حكوماتها المنتخبة نفس النهج خارجيًا كما هو الحال داخليًا؟ لكن يبدو أن هناك ما يشبه الاتفاق الضمني بين تلك الشعوب وحكوماتها في ما يخص السياسة الخارجية، الحكومات الغربية تعلم علم اليقين أن التعامل مع أنظمة ديكتاتورية وسلطوية أفضل بكثير من صداع وكلفة التعامل مع أنظمة ديمقراطية وشرعية مدعومة من شعوبها، الفاتورة ترتفع كلفتها حين يكون للشعب عبر من يمثلونه رأي يعتد به وله القرار في كل ما يتم عقده من صفقات واتفاقيات، والشعوب الغربية جل اهتماماتها يتمحور حول الحفاظ على نمط حياتها وحقوقها وغالبيتها لا يثير أي اهتمام لديها أسئلة حول من أين وكيف ولماذا؟ فالأهم هو النتيجة والمحصلة النهائية ويعلم الساسة والمؤثرون في المعادلة الداخلية هذا جيدًا؛ لذا عندما يتم تناول أسلوب وكيفية التعامل مع الملفات الخارجية يكاد ينحصر الطرح حول نقطة واحدة هو العائد المادي والاقتصادي من وراء هذا التأثير هنا والتدخل هناك في أثبات حرفي لتغير معادلة تتابع التأثير حيث كان في السابق الاقتصاد والمال يخدمان السياسة عكس ما يحدث حاليًا فقد أصبح الاقتصاد والمال هما المحور والمحرك لأي سياسة اتفاقًا أو اختلافًا، حياديةً أو تدخلًا، حربًا أو سلمًا.
على سبيل المثال ما يجري حاليًا في أوروبا والغرب من صعود للحركات والأحزاب اليمينية وتأثيرها واستخدامها لأوراقها المفضلة اللاجئين والإرهاب والإسلاموفوبيا للترويج لنفسه وحصد المكاسب السياسية هي نفسها الأوراق التي كانت نتيجة مباشرة للسياسات الغربية في منطقة الشرق الأوسط والدول ذات الغالبية المسلمة بوجه خاص، حيث كانت ولا تزال المعادلة القائمة بسيطة ومختصرة وهي الحصول على الأموال والثروات والمواد الخام من الشرق مقابل الدعم السياسي والعسكري وتجاهل الملفات الحقوقية من الغرب، لتستمر الأنظمة الديكتاتورية في قمع شعوبها والسيطرة على ثرواتها ومقدراتها وبالتالي يسهل المقايضة بها لتحصل عليها حكومات الغرب وتمنحها لشعوبها لتعيد انتخابها وهكذا-قد تتغير الأشكال والشخصيات والأحزاب في الشرق والغرب- لكن تبقى المعادلة نفسها قائمة ليربح الجميع عدا الشعوب المغلوبة على أمرها وهي الأحق بتلك الثروات والمقدرات وتستحق العيش بكرامتها داخل دولها وأن يتصدر للحكم فيها من يضمن لها نفس ما تتمتع به شعوب الغرب من حريات وحقوق. قد يرد البعض أن غالبية التقارير الحقوقية والمنادية بحق الشعوب في حريتها وتقرير مصيرها والراصدة لانتهاكات الأنظمة القمعية ضد مواطنيها تصدر عن هيئات وجمعيات ومنظمات غربية، وهذا أمر صحيح وواقعي، لكن يبقى السؤال الجوهري والأهم هو مدى تأثير تلك الهيئات وما تصدره من تقارير على أرض الواقع وما يحدثه من تغييرات في المعادلة، وعندما يتواجد هذا التأثير يكون محدود للغاية وفردي وكثيرًا ما يأتي بعد فوات الأوان، وحتى تلك المنظمات والهيئات والجمعيات تستخدمها الدول الغربية للبرهنة على ما تتمتع به شعوبها من حرية في الرأي والتعبير والرصد والانتقاد أي أنها وبشكل غير مباشر تسهم في إكمال شكل الدولة الحضاري والمتقدم مع عدم إنكار ما تقوم به تلك الهيئات من جهود في حدود إمكانياتها وتوجهات داعميها ومموليها وأعضائها فهي منظمات غير ربحية في المقام الأول وهو ما يوقعها كثيرًا ضحية لتعقيدات الاقتصاد والسياسة والمصلحة.
{ (يتبع)
بقلم: جمال الهواري
copy short url   نسخ
14/11/2019
1506