+ A
A -
لم تكن ليلة عادية أبدا بل كانت ليلة سريعة وأحداثها سريعة تـتـناسب مع رتم هذا العصر الذي يطلق عليه «عصر السرعة»! هناك عدد من الملاحظات على ليلة الانقلاب العسكري في تركيا: الثورة المضادة ما زالت تعمل وما زالت نـشطة ولن تـتوانى عن التمدد بنفس صيغة شعار تـنظيم الدولة «باقية وتـتمدد»! ثم إن أحداث ليلة الانقلاب في تركيا رسخت شعار «الشعب يريد إبقاء النـظام»! بعكس ما شهده الربيع العربي المختطف وشعاره الشهير «الشعب يريد إسقاط النـظام»! لماذا؟
ما هو السبب الذي جعل الشعب التركي يتحد عن بكرة أبيه ويواجه الدبابات بالصدور العارية ويعلنها بقوة «لن تمروا»!؟ سنـناقش هذه المسألة ثم نستعرض بعض الصور السريعة التي اٌلتقطت في تلك الليلة السريعة!
أثبتت أحداث ليلة الانقلاب أن الثورة المضادة ما زالت تعمل حتى في المجتمعات التي استـقرت سياسيا وترسخت لديها التجربة الديمقراطية! لا يظن البعض أن مصطلح «الثورة المضادة» خاص بالثورات أو الانقلابات التي أعقبت الربيع العربي بل إن هذا المصطلح موجود في كل المجتمعات وقد يعني الثورة المضادة على كل ما أجمع عليه الأحرار واستـقر عليه الوطنيون! وفي هذه الأحداث بالذات يحق لنا أن نربط الأمر بالربيع العربي خاصة من حيث التـشابه الكبير ما بين الانقلاب العسكري التركي والثورات المضادة في بلاد الربيع العربي فالمستبشرون بالانقلاب هم أنفسهم والمغردون المستعجلون بالشماتة بالرئيس المنـتخب والحكومة الشرعية هم أنفسهم والرادحون المطبلون للانقلابين هم أنـفسهم، فلما لا تكون ثورة مضادة لكن بالبهارات التركية المميزة!!
أثبتـت أحداث ليلة الانقلاب الفاشل أن «تركيا غير»! خمس ساعات فقط فصلت ما بين إعلان الانقلابين السيطرة على زمام الأمور وتصريح أردوغان بفشل الانقلاب وإعادة السيطرة على الوضع، كأنها ثمانون عاما لا أبا لك فابتسم! لقد نزلت الجماهير التركية إلى الشوارع وتوجهت نحو مباني السلطة المدنية (البرلمان والإذاعة والمطار) رفضا للانقلاب العسكري منذ الوهلة الأولى التي رأوا فيها رئيسهم المنـتخب يتحدث من خلال فيس تايم يطلب إسقاط الانقلاب بكلمات بسيطة وهدوء غير مسبوق! في دول أخرى يحتاج الحشد والتهيئة وإثارة وتوحيد الشعور العام شهورا طويلة من الخطط والاستراتيجيات والعمل الاعلامي المبرمج لكن في تركيا كان الوضع مخـتلفا فقد سبقت التجربة حركة الجماهير!
فعلا لقد سبقت التجربة حركة الجماهير، فالعقل التركي متأزم من تجارب الانقلابات السابقة ولن يعيد الكرة ولن يرغب في رؤية المجنزرات والدبابات تٌدير البرلمان والحكومة مرة أخرى! الشعب التركي لم يتعامل مع الأمر بسلبية كما هي بعض الشعوب الأخرى التي تـقف مندهشة تـنـتظر من يحسم الأمر: السياسيون أم العسكر؟ فيكون الحسم في الحالتين على حساب الشعب وحقه في تقرير مصيره ومستـقبله! ثم إن العقل التركي يعيش التجربة التـنموية الناجحة التي صنعها أردوغان وحكومته ويقطف الشعب كل يوم ثمار الاستـقرار السياسي والحكومة الجادة والعمل الإداري المنظم لذلك لم يتردد عن النزول إلى ميدان التحدي وفرض رؤية الشعب التركي المجيد!
الملاحظة الأهم من أحداث الليلة التركية الساخنة هي أن المعارضة السياسية لم تحاول انـتهاز الفرصة والاصطفاف مع العسكر أصحاب القوة المادية بل أثرت (الأحزاب السياسية) الاصطفاف مع القوى المدنية رغم الخصومة المريرة مع أردوغان والمنافسة الحامية مع حزب العدالة والتـنمية! إنه درس سياسي عميق يوضح الفرق الكبير بين المكاسب السياسية قصيرة الأجل (مثل مشاركة بعض الأحزاب المعارضة في حكومة الانقلاب (لو) نجح) والمكاسب السياسية طويلة الأجل (حماية الديمقراطية وحق الشعب وتعزيز دور القوى المدنية بعيدا عن الجيش والعسكر والدبابة)! لقد اخـتارت المعارضة التركية الوطن ولم تختر العسكر!
ويلاحظ ان أردوغان وبعض كبار القادة السياسيين حرصوا على التواجد والحضور مع الجماهير كما سارعوا للظهور الاعلامي ما أحدث أثرا قويا عند الناس جعلهم يشعرون بقدرتهم على منع الانقلابين من قطف زهرة التجربة السياسية التركية الناضجة! أضف إلى ذلك أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وهي الأكثر حضورا بين أيدي المواطنين وكذلك استخدام وسائل التواصل الديني (مآذن المساجد) وهي الأكثر حضورا في ضمير الشعب التركي وسلامة الوعي التركي من الإعلام المزيف كل ذلك ساعد على الحشد وتحفيز المشاعر القومية التركية للصمود ومنع تدمير قصة النجاح التركية المميزة!
حملت وكالات الأنباء صورا معبرة عن هبة الشعب التركي لإنقاذ الديمقراطية منها على سبيل المثال صورة المرأة العجوز التي خرجت تحمل في يدها عصا ثـقيلة لتأديب الانقلابين بزعمها، وصورة الشيخ الكبير الذي ارتدى الملابس العثمانية ونزل مع الجموع يحثها على الصمود، وصورة الشاب التركي الذي استلقى تحت الدبابة، وصور جموع الناس الذين يلاحقون عسكر الانقلابيين ويعتـقلونهم، وصور جنود الانقلاب وهم يخلعون ملابسهم ويستسلمون للمدنيين، وصور أخرى توضح بلا أدنى شك أن القاعدة التي يجب أن تسير عليها الدولة الحديثة تـقول «إذا ما الشعب يوما أراد الحياة.. فلابد أن يـبقى العسكر في ثكناتهم» (بتصرف)!
د. صنهات بن بدر العتيـبي
copy short url   نسخ
19/07/2016
3004