+ A
A -
البداية:

«ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى»

متن:

قدرها أن تعيش وحيدة
لا والدٍ.. ولا ولد
تفترش بساط الصبر
ونظرها للسماء
بمنزلها.. بمفردها.. حيث لا أحد

هي زوجة جدي وأرملته
والوحيدة بين نسائه الأربع التي لم تنجب
والتي بقت على ذمته حتى وافته المنية
وبينما كلٌ رعاه أبناءه،
اختارت هي العودة من حيث جاءت،
في بيت والدها القديم.. بين أقاربها
أو بمعنى أدق بين من تبقى منهم..
وكل هذا حتى لاتُثقل على أحد
فضّلت العيش وحيدة.. تُصاحب جدران البيت.. وتروي القصص للمرايا
لا إبن يملأ حياتها فرح
ولا أخ يسندها إن أثقل العمر كاهلها.. ومع ذلك بقت شامخة

واليوم أمي «نوضى» كما تحب أن نسميها بألفها المقصورة
بلغت الثمانين
زرتها بعد غياب طويل بسبب الغربة والدراسة
شاب الشعر والنظر
إلا قلبها لايزال شابًا
مليئًا بالحب والفرح،
نادت اسمي من بعيد
بينما عيناها لمعت بدموع اللقاء
نهضت من دون عصاها
لتفتح ذراعيها فرحًا بمن ذكرها وزارها،

عاتبتني لدقائق على طول الغياب
وسرعان ما نست كل ذلك
وضمتني بلهفة حطمت كل المسافات
كنت للتو عائدًا من أميركا
وبدأت تحكي لي الحكايا
عن جيرانها وأقاربها
عن والدي وجدي،
رغم مضي سنين طويلة على رحيلهم
ولاتزال تدعو لهم بالرحمة والمغفرة
وهذا من بر العشرة والحياة،

وبدت تقص لي القصص
كيف كانت الحياة في زمانها
كيف كانت البيوت مشرعة الأبواب حتى يُخال إليك أنها بُنيت من دونها
وكيف كانت القلوب تتسع للناس
وكرم النفس يسبق كرم المال رغم ضيق الرزق
وخبزها الذي لم يأتِ ذكره بالأولين ولا الآخرين
وتنقلت بين مراجيح الروايات القديمة كطفلة تلهو مستمتعة بوقتها ومن زارها

ثم كررت شكواها من الوحدة ثلاثًا
أحزنتني.. قالتها بصوت منكسر:
«تمر علي الأيام والأسابيع متشابهة
لا أُكلم أحد»

ثم طلبت من الله أن يعوضها الجنة
وبحشرجة الرجاء
حلّفتني أن أبقى عندها ليومين
أسامرها وأرد الصوت عليها
وكان لها ما أرادت
فمن ذا الذي يقوى على كسر قلب لاينبض إلا بالحنان
ومع بزوغ الفجر وجدتها على سجادتها
ترفع يديها للسماء
ولا أعرف لماذا سمعتها ترجوه سبحانه:
ربِّ ابنِ لي عندك بيتا في الجنة

ومع حكايا الصباح روت لي جور السنين
وكيف كانت تبكي عندما يُعايرونها بالعاقر
بلغت الثمانين ولاتزال تبكي على سخريتهم من قضاء الله في أمرها وإن كيدهن لعظيم

وفي تنهيده مصحوبة بألم الحنين تقول:
وماذا تملك فتاة عاقر غير الصمت والصبر
سمعت وتجاهلت وكل شيءٍ بقدر

وختمت حديثها بالقناعة والرضى:
«عشت الحياة بحلوها ومرها
فرحت وانكسرت، اشتقت وحنيت، ضحكت وبكيت
ولاشيء أنتظره سوى أن يعوضني الله ماهو خير من الدنيا وأبقى»

وعندما لملمت ذاتي موشكًا على الرحيل
وضعت في جيبي مبلغًا نراه قليل وهو كل ماتملك
رغم أني لست في حاجة
لكنها أصرّت على ذلك
قبّلت رأسها ومضيت..
لتمسح دموعها وتحلّفني أن لا أُطيل الغياب
ورحلت وأنا ادعوه سبحانه
أن يعوّض أمي «نوضى» ماحُرمت منه بالدنيا
إنه سميعٌ كريم العطاء

ياه على هذه الحياة
موحشة بوحدتها
ومرارة الفقد وألم الشوق لمن غاب ورحل
ماذا عساي أن أقول سوى ربي لاتذرني فردًا وأنت خير الوارثين

فاصلة،

صِلوا أرحامكم وكبار السن..
عانقوهم بفرح واصغوا لهم بانتباه
أشعروهم أنهم كل شيء بحياتكم
فأنتم لاتعلمون متى تحين ساعة الرحيل

إضاءة:

«إن إلى ربك الرجعى»

آخر السطر:

أكبر خساير العمر يافهيد.. لاصرت بين الناس ومحدٍ يدانيك
بقلم : دويع العجمي
copy short url   نسخ
01/08/2016
4273