+ A
A -
تغرق الطبقة السياسية اللبنانية في ما يمكن تسميته بـ«دويخة الحوار» محاولة إيهام اللبنانيين أن مجرد الجلوس وجها لوجه حول الطاولة من دون التوصل إلى نتائج فعلية وحاسمة يشكل العلاج الشافي لمشاكلهم ويبعد نزعة الهيمنة والاستئثار عن بعضهم. كان ذلك في ما مضى، يوم اندلعت الحرب قبل أربعين سنة وفتحت الجبهات ونصبت المدافع، وكان اقتتال وخراب ودمار وعشرات آلاف الضحايا.
يومها كان الحوار أو حتى مجرد تصريح كلامي، وليس إطلاق قذيفة، يشكل بلسما للمختبئين في الملاجئ.. أما اليوم فإن البعض يذهب إلى حد اعتبار الحوار المتكرر إلى حد الرتابة بمثابة «الزعبرة» التي يمارسها السياسيون بمعظمهم لتقطيع الوقت وإخفاء عجزهم المقيم عن تحمل المسؤولية وإثبات أنهم أصحاب قرار وليس منفذي سياسات تملى عليهم من الخارج.
قبل أيام انتهت «ثلاثية الحوار» التي امتدت على مدى ثلاثة أيام متتالية وشاركت فيها معظم القوى والشخصيات السياسية سعيا لإيجاد مخرج لمأزق الفراغ الرئاسي الذي يستمر منذ أكثر من سنتين ويشل البلد على المستويات كافة. ولم يتمكن النواب خلال أربعين جلسة عقدت طيلة هذه الفترة من انتخاب رئيس للجمهورية، بسبب قيام فريق يقوده «حزب الله» بتعطيل الجلسات عبر تهريب النصاب. يمثل هذا الفريق أقلية برلمانية داخل مجلس النواب، ولكنه يريد فرض الجنرال السابق ميشال عون رئيسا للجمهورية ولا يقبل بمرشح سواه. وكعادته، استنبط رئيس المجلس نبيه بري «طاولة الحوار» لجمع الفرقاء وللتخفيف من حدة التوتر والانقسام، وهو المنتمي إلى «محور الممانعة» (قريق 8 آذار) الذي يتصدره حسن نصرالله، رغم علمه أن المهمة شبه مستحيلة.
دأب بري على ذلك منذ سنوات، هو مناور من طراز أول ويمارس هذا الدور بإتقان، الا انه يعرف حدود اللعبة محليا واقليميا.. خففت الجلسات خلال الأشهر الماضية من اجواء الاحتقان، ولكن من دون نتيجة فعلية تذكر. يدخل كل طرف بأجندته، مقابل اصرار فريق 14 آذار (أو ما تبقى منه) على أولوية انتخاب الرئيس يطالب «فريق الممانعة» بالاتفاق على قانون جديد للانتخابات، وهكذا دواليك. عندها سارع بري في يونيو الماضي إلى استخراج «أرنب من كمه» بإطلاق «ثلاثية الحوار» في الأيام الأولى من هذا الشهر محاولا الإيحاء ان هناك فرصة إقليمية مؤاتية ستنضج في هذه الفترة وتتيح بإتمام تسوية ما يقوم هو بتحضير الأجواء لها عبر طرحه فكرة «السلة المتكاملة» التي تتضمن مجموعة بنود وتفاهمات حولها تقوم عمليا على مبدأ المقايضة بين الرئاسة وقانون الانتخاب والحكومة، بين الرئاسة لعون ورئاسة الحكومة للحريري.. وإذا بهذه «الثلاثية» تتمخض عن تشكيل هيئة من الخبراء في الدستور والقوانين تعود للاجتماع في بداية شهر سبتمبر المقبل. مراهنة أم مناورة؟ راهن بري على انفراج سعودي– إيراني، وإذ بمعركة حلب، التي راهن عليها «محور الممانعة»، تتحول إلى سراب ويتبين أن «لا تسوية وإنما... شُبِه له»!
يقول المثل العامي: «لا تسلم الجرة في كل مرة»! انفراط عقد طاولة الحوار يمكن ان يتحول إلى نذير شؤم.. لا يتذكر اللبنانيون كل طاولات بري الحوارية بالخير، فبعضها كان لتقطيع الوقت كشاهد على براعة السياسيين اللبنانيين، وبعضها شكل خيارا عاقلا في لحظة دقيقة وحرجة غداة جريمة اغتيال رفيق الحريري، وبعضها الآخر مهد الطريق للخديعة التي مارسها «حزب الله» بذهابه إلى الحرب في يونيو 2006 التي دمرت لبنان.. ثم لحقتها غزوة «حزب الله» لبيروت في 7 مايو 2008 التي فرضت على «طاولة الدوحة» اعطاء «حزب الله» وأتباع النظام السوري «الثلث المعطل» (أي ثلث عدد الوزراء) الذي شل حكومة سعد الحريري وأجبره على الاستقالة.
فإلى متى تستمر الطبقة السياسية في الحوار تقطيعا للوقت بانتظار «لحظة إقليمية» ربما لن تأتي قبل سنوات؟
سعد كيوان..
copy short url   نسخ
09/08/2016
2655