+ A
A -
د. عبد العاطي محمد
لم يعد لفظ «داعش» يتوقف فقط على الإشارة إلى ذلك التنظيم الإرهابي الذي تجرى محاربته في العراق والشام، وإنما امتد للتعبير عن حالة الخصام المستعصية التي باتت تتسم بها معظم أدبيات الحوار العربية المعاصرة المعنية بالشأن العام. فما من حدث أو موقف إلا ويحمل معه تساؤلا مفزعا عما إذا كنا في نقاشاتنا وحواراتنا بل وفى محاولات حل أزماتنا المصيرية نتعايش أم في حقيقة الأمر «نتداعش»؟.
ولأول وهلة يبدو لفظ «التداعش» بديلا للتعايش مبالغة لا مبرر لها، أو إقحاما لمصطلح غريب عن لغتنا العربية ومرتبط بظاهرة بعينها هي نشاط إرهابي لتنظيم ما لا يصح تعميمه في لغة الحوار والنقاش ومعالجة الأزمات عموما، أو افتعالا في تشخيص ظاهرة طارئة إمعانا في التشاؤم. ولا شك أن هذا وغيره محل تقدير واحترام لأن هناك ما يدلل على صحته، ولكنه وجه واحد للعملة، بينما الوجه الآخر مختلف وله اعتباراته ومنطقة ويكاد يكون منفصلا عن الوجه الأول، وهو انسحاب اللفظ ليدلل على كونه أسلوب حياة أو طابع طارئ على الشخصية العربية المعاصرة، ولذلك مؤشراته التي تبرر تناوله على هذا النحو. نظرة سريعة على معظم أدبيات الإعلام وتصريحات الأطراف المتخاصمة تقول إن الأسلوب السائد هو «التداعش» وليس التعايش.
هناك من المؤشرات التي تؤكد أنه انتقل إلى حياتنا اليومية دون أن تكون له أية علاقة مباشرة بهذا التنظيم، بمعنى أنه أصبح من إنتاجنا المباشر ونتجمل عنه المسؤولية من الألف إلى الياء. إنها «العدوى الداعشية» التي أصبحت واقعا في أسلوب حياتنا وفى طريقة تعاملنا لحل أزماتنا القائمة وتحديدا الساخن منها في العراق وسوريا واليمن وليبيا.
العدوى الداعشية نقلت إلى عالم الشأن العام قائمة طويلة من الموبقات الفكرية والثقافية والأخلاقية ما خلف أطلالا من الانهيار المادي والمعنوي. من هذه القائمة على سبيل المثال لا الحصر: المفاصلة، والاحتراب، وتبرير الإرهاب، والتطرف ما بين أشد الإسلاميين غلوا وأشد العلمانيين غلوا، والفرقة المذهبية، والكراهية، واللاإنسانية. داعش له بالطبع هدفه المحدد وهو إقامة الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة بنظرته الخاصة لها. ولكن ملابسات ظهوره وأفعاله والفكر الذي يحمله كلها خلقت عدوى أصابت أسلوب الحياة المعاصر في المنطقة أدت إلى انقسام بين من يريدون التعامل مع الشأن العام بأسلوب التعايش ومن يريدون التعامل بأسلوب التداعش. يذهبون إلى المفاوضات ولا يتوقفون عن الاقتتال، ويتحدثون عن التسامح والانتقال السلمي للسلطة ويرفضون أية مبادرة في هذا الاتجاه لأنهم مسكونون بالكراهية، تماما مثلما يفكر ويتصرف الداعشيون.
والملفت أن الجانب الإنسانى يحظى بأهمية خاصة في كل هذه الأزمات حيث لجوء «داعش» لأبشع طرق قتل المدنيين والأسرى من العسكريين، وكذلك التهجير القسري للمدنيين بالملايين، بينما لم يتم التعامل مع وضع كهذا بنفس أهميته وقدره من الخطورة. من المؤكد أن من يحاربون التنظيم أبعد ما يكونوا عن فكر وسلوك هذا التنظيم وهم بإجمالهم أعداؤه ويحلمون باليوم الذي يتخلصون منه فيه، ولكن العدوى الداعشية تفعل أثرها بينهم من حيث الواقع.
الخلاص من العدوى الداعشية ليس عسيرا بل سهل وميسور إلى حد كبير، ولكن مقومات الخلاص من العدوى لم تتوافر بعد. فالتنظيم مهما طال أمده هو إلى زوال كغيره مما سبقه من تنظيمات إرهابية. ذلك هو حكم التاريخ. ولكن ما يبقى هو تلك العدوى التي ما كان لها أن تقع أصلا لولا التهاون أو التراخي الرسمي الإقليمي والدولي معه نتيجة تضارب المصالح وعدم تصالحها.
أليس من الواجب أن تقود أجهزتنا الإعلامية ومنابرنا الثقافية مبادرة شعبية واسعة النطاق رسالتها بسيطة: «دعونا نتعايش لا أن نتداعش»، فربما تجعل السياسيين وصناع القرار أكثر إصرارا على تجاوز الزمن والإسراع بإغلاق ملفاتنا الساخنة على حلول مرضية تنهى حالة الاحتراب اليومية وتضمن العيش الكريم والأمن والسلام للجميع.
copy short url   نسخ
10/09/2016
2552