+ A
A -


أتذكر جيدا فتاة مجتهدة كان ترتيبها الاول دائما في كل مراحل التعليم المختلفة،هذه الفتاة لم تكن قادرة على حفظ المقررات الدراسية فقط وانما أرقام الصفحات أيضا،وكانت تبكي بكاء مرا اذا نقصت نصف درجة في أي اختبار،حتى لو كان اختبارا تجريبيا لا تحسب فيه الدرجات،إذ لم يكن والدها يتسامح أبدا في أي تقصير من هذا النوع،وكان العقاب قاسيا وعنيفا في معظم الاحيان،هذه الفتاة لم تستطع ان تتعايش مع العالم الخارجي بعد التخرج من الثانوية،ورحيل والدها في نفس العام الذي التحقت فيه بجامعة في بلد آخر،لقد تعرضت للنصب والاحتيال أكثر من مرة،وفشلت في ان تكون محط الانتباه في البيئة الغريبة عنها،وفيما بعد آثرت الانسحاب،والتحقت بوظيفة عادية،وقبلت الزواج من أول رجل تقدم لها،وكان لديه زوجتان وعدد كبير من الاولاد والبنات،وأنجبت ثلاثة اطفال تولت الانفاق عليهم من الارث الذي آل اليها،وحرصت على ان تربيهم تربية مختلفة عن التربية الصارمة التي تلقتها،وان يتلقوا تعليما مختلفا يؤهلهم لأفضل المناصب،وبتصميم وعزم لا يكل عمدت على نقلهم من مدرسة لأخرى،مرة مدرسة فرنسية ومرة أميركية ومرة أسبانية...وكانت النتيجة تمرد أكبرهم وتركه المدرسة بعد ان وصل لسن المراهقة،وتعثر الاثنان في الدراسة،ولم يتمكن أي منهما من اجادة لغة واحدة من اللغات الثلاث،وحين التقينا بناء على دعوة مني لجمع زميلات الدراسة بعد مرور خمسة عشر عاما على آخر لقاء.وجدتها تتساءل بمرارة عن أسباب تخلف اولادها في الدراسة مع انها أنفقت ثروة في سبيل تعليمهم.. ومر الاقتصادي الكبير «جلال أمين» بتجربة مماثلة قال عنها: «عندما أستعرض ما آل اليه اصدقائي في المدرسة الابتدائية أو الثانوية،ممن عرفت تطور حياتهم بعد تخرجهم منذ ثلاث أو أربع سنوات،أجد ما يقطع بصحة استنتاجي بأن الاستعداد الفطري والحس الخلقي يولد مع الطفل بدرجة معينة من القوة،مثلما يولد معه أنف بحجم معين وصوت ذو نغمة خاصة...لقد خطر لأحد زملائي القدامى،الذي كان تلميذا في نفس الفصل المدرسي منذ ما يقارب من ستين عاما،عندما كنا في نحو الثانية عشرة من عمرنا،أن يدعو أكبر عدد ممكن من هؤلاء الزملاء القدامى إلى العشاء.وقبلت الدعوة مسرورا ومتشوقا إلى أن أرى ما فعله الدهر بأصدقاء الصبا،وبعضهم لم أكن رأيته قط منذ تلك السن الصغيرة،فرأيت عجبا.نعم،لقد شاب شعر أكثرهم،وتشققت البشرة بالتجاعيد،وجاء أحدهم يستند إلى عكاز،وسيطر الحزن على آخر بسبب أزمة قلبية حديثة العهد،ولكني وجدت أن من كان ذكيا لا يزال ذكيا،ومن كان غبيا لا يزال غبيا،وثقيل الظل ظل كما هو،وكذلك خفيف الظل،كلهم في يسر نسبي،وكلهم لهم،أو كان لهم وظائف أو اعمال محترمة،ولكن التفاوت العقلي والخلقي لم يطرأ عليه أي تغيير،اذ يبدو انه لا المدارس النموذجية،ولا المدارس الأقل نموذجية،استطاعت أن تقضي على هذا التفاوت...وكل هذا صحيح فالجينات الموروثة والاستعداد الفطري لهما دور كبير.. وهذا لا يمنع ان يكون البيت هو أفضل مدرسة يمكن ان يتعلم فيها الطفل كل شيء أو لا شيء.
بقلم : وداد الكواري
copy short url   نسخ
27/09/2016
1154