+ A
A -

كان القضاء الأردني يستعد ليقول كلمته في قضية الكاتب الصحفي ناهض حتر، لكن القاتل الذي أعمى التطرف بصيرته، قرر أن يأخذ القانون بيده، ويتحدى سلطة الدولة، وقبل هذا وذاك إرادة الخالق عز وجل، ويقتل الكاتب بدم بارد على أدراج قصر العدل في العاصمة عمان، تحت تأثير دعوات القتل والسحل التي عجت بها صفحات «الفيسبوك».
الجريمة هزت أركان المجتمع الأردني، الذي لم يعهد في تاريخه هذا النوع من التصفيات الجسدية بحق صحفيين أو سياسيين.فجاءت الأصوات المستنكرة للجريمة من جميع القوى الحزبية والاجتماعية، وأودع القاتل للقضاء العسكري ليقول كلمته في جريمة صنفها الإدعاء العام تحت بند الجرائم الإرهابية، التي تصل عقوبتها إلى حد الإعدام.
لكن الجريمة على مافيها من مخاطر إشعال الفتنة وجر المجتمع للاقتتال، وهو ماتصدى له الأردنيون بوحدتهم الوطنية، سلطت الضوء على التداعيات الكارثية التي خلفتها فوضى إعلام التواصل الاجتماعي على المجتمعات، وعلاقة أبناء الشعب الواحد ببعضهم البعض.
لم يكن أحد ليتصور قبل هذه الحادثة، أن دعوات القتل وثقافة الكراهية على «الفيسبوك» وغيره من المواقع، ستترجم إلى أفعال على أرض الواقع.
لقد أتاحت تلك المواقع لقلة قليلة من البشر غير الأسوياءبتلويث الوعي العام، وجر قطاعات واسعة من الناس، لمواجهة «فيسبوكية» مفتوحة على التحريض والكراهية، وبث الفرقة بين أبناء الدين والوطن الواحد.
وفي ظل ثقافة عامة متدنية، وشعور عميق بالغضب والإحباط، تفجرت على صفحات التواصل موجات التعصب والتطرف وكراهية الأخر لمجرد الاختلاف معه في الرأي أو الفكر.وصار بوسع جاهل لم يقرأ كتابا في حياته أن ينصب نفسه فقيها في الدين، ومفكرا في السياسة؛ يصدر أحكام الموت، ويشحذ الهمم لحروب بين الناس، في وضع يشبه سنوات الظلام في أوروبا عندما كان الكهنة يصدرون صكوك الغفران.
ما من دولة اليوم لا تعاني المتاعب من اعلام التواصل الاجتماعي البغيض. حتى الدول الديمقراطية العريقة لم تعد تتحمل حالة الانفلات على تلك المواقع، ودورها الهدام في نشر الكراهية والبغضاء.
منذ يومن فقط هدد وزير العدل الألماني باتخاذ إجراءات قانونية صارمة بحق موقع «فيسبوك» إذا لم يستجب لدعوات الحكومة بإزالة صفحات تحث على الكراهية في ألمانيا.
الصحف الوازنة في العالم تكافح لكي تبقى ملتزمة بالمعايير الأخلاقية عند نشر التعليقات على صفحاتها بمواقع التواصل الاجتماعي، بسبب الكم الهائل من التعليقات التي تتنافي مع الأخلاق العامة، وقيم وتقاليد المجتمعات.
وقد اضطرت دول ديمقراطية في بعض الأحيان لحجب خدمات التواصل الاجتماعي، لتجنب مجتمعاتها المخاطر المترتبة على الفوضى والإشاعات والأخبار المفبركة، وحماية السلم الأهلي من عبث العابثين.
إن المرء ليصدم من قدرة البعض على كتابة تعليقات تبلغ من السوء والانحطاط مالا يتصوره عقل، دون أدنى مراعاة لمشاعر الضحايا وكرامات البشر، وخصوصياتهم. ودون اكتراث لأمن مجتمعاتهم واستقرارها.
ليس كل ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي ينطبق عليه هذا الوصف؛ فما من شك أن لها إيجابيات كثيرة. لكن مشكلة هذه المواقع أنها وفرت منصة واحدة لجميع الناس، رغم التمايز في مستوياتهم الثقافية والمعرفية والاخلاقية؛ فللعالم والفقيه نفس المساحة والحق المتاح للقاتل والجاهل.
وفي المجتمعات التي لم تتعود من قبل على هذا القدر من الانفتاح، تواجه قطاعات واسعة أزمة في التعبير، فتجدها تنقل إلى صفحات العالم الافتراضي كل شيء غث وسمين دون تمييز أو تقدير لما يترتب على ذلك من مصائب.
والأسوأ من ذلك أن الإرهابيين هم أكثر من أحسن استخدام هذه المواقع لخداع الأبرياء، واستمالتهم إلى عالم مجهول. يقول خبير أمني مطلع إن ستين بالمائة من الشباب الذين التحقوا بالتنظيمات الإرهابية، جرى تجنيدهم عن طريق شبكة الإنترنت.
لم يكتف هؤلاء بمن التحق بهم من المغرر فيهم، فهم اليوم يريدون أن تلتحق مجتمعاتنا كلها في عالمهم، وتغرق في حروب داخلية لا نهاية لها.
بقلم : فهد الخيطان
copy short url   نسخ
29/09/2016
2798