+ A
A -

إذا كان الجهل الأصغر كارثة فالجهل الأكبر كارثة أكبر. الجهل الأصغر هو جهل الأميين، أما الجهل الأكبر فجهل المتعلمين. الفارق بينهما يجسده بيت الشعر المعروف للإخميمي «إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم».
فالأمي قد لا يشعر بالحرج لو طلب أحد منه أن يكتب بضع كلمات لأنه لا يعرف من الأصل كيف يكتبها. أما المتعلم فالأرجح أنه سيشعر بالحرج بسبب أخطاء إملائية بسيطة يقع فيها أو جهل بمعلومات عامة يُفترض أنه تعلمها أثناء الدراسة.
ويمثل الجهلان معاً تهديداً جسيماً للدول العربية. فالأميون عالة مرهقة لأنهم لا يستطيعون القراءة والكتابة وبالتالي لا يعرفون قيمة العلم الذي هو سر تقدم الأمم ورقيها. أما أنصاف المتعلمين وقود الجهل الأكبر فمصيبة فادحة لأن أوطانهم توسمت فيهم أن يكونوا أدوات للتنوير، لكنهم تحولوا بسبب ضعف مستوياتهم إلى معاول لهدمها. وإذا كانت مكافحة الجهل الأصغر ليست بسيطة إلا أنها أسهل من مكافحة الجهل الأكبر على أقل تقدير لأن هناك إحصاءات تشير إلى حجم ظاهرة الأمية. أما أنصاف المتعلمين فيصعب تحديد حجمهم.
بالنسبة للأمية أو الجهل الأصغر، تفيد إحصاءات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) أنها ستصل إلى 49 مليون فرد معظمهم من الإناث بحلول عام 2024 إن لم تتغير البرامج التعليمية في الدول العربية. وبرغم أن دولاً مثل قطر والأردن والسعودية حققت نجاحات ملموسة حيث انخفضت نسبة الأمية فيها إلى 2% و3%، و5% على التوالي، إلا أن دولاً عربية عديدة ما زالت تتعثر في القضاء عليها. ويفاقم الجهل الأصغر وجود جهل أكبر يمثله متعلمون مشوهون يصعب عليهم الأخذ بيد الأميين إلى طريق العلم والمعرفة. فمحو الأمية يحتاج إلى معلمين متعلمين يقومون بأداء هذه الرسالة. لكن المتعلمين اليوم أصبح كثير منهم أنصاف متعلمين. يخطئون في الإملاء ولا يميزون بين الفصحى والعامية ويكرهون القراءة بما في ذلك الكتب الدراسية، ويتصرفون بقدر لافت من اللامبالاة والاستهتار وفهلوة لا يجب أن تصدر عن متعلمين. وإذا كان «العطافي سنبل» مسؤول ديوان شؤون الموظفين في مصر كتب لوزارة المالية في 1957 تقريراً عن بؤس حالة الخريجين وركاكة لغتهم العربية وضعف إلمامهم باللغات الأجنبية وفقر ما لديهم من معارف أساسية فماذا كان سيكتب عنهم اليوم والجامعات المصرية تضخ وحدها كل عام قرابة نصف مليون خريج؟.
لقد نشأ الجهل الأكبر في بيئة مليئة بالأخطاء. فلا يمكن أن يتخرج طلاب أكفاء في فصول سعة الواحد منها مائة طالب أو أكثر. ولا يمكن أن يتسم نظام التعليم بالكفاءة فيما ظاهرة التسرب الدراسي في ازدياد بعد أن فقدت كثير من المدارس جاذبيتها. ولا يمكن للتعليم أن يثقف في مدارس وجامعات حكومية متهالكة تركتها سياسات الخصخصة يباباً للطبقات الوسطى والفقيرة. ثم كيف يُقبل الطالب على العلم والمعرفة إذا كان يرى الواسطة والمحسوبية وتعيين غير الأكفاء أموراً شائعة في مجتمعه؟. كل تلك الأخطاء انتهت بوضع أرتال من أنصاف المتعلمين في مواقع أكبر بكثير من قدراتهم.
لقد كان المأمول أن يساعد التعليم كل الأفراد في الحراك الاجتماعي نحو الأفضل، وأن ينتج خريجين يساعدون بلادهم في النهضة بما في ذلك القضاء على الأمية أو الجهل الأصغر. لكن الفساد الذي نهش كل مناحي الحياة بجانب تواضع الإنفاق على التعليم وعدم استعداد كثير من الدول العربية للتعامل مع مشكلته كقضية أمن قومي شكلت عوامل أفرزت المتعلمين الأميين أو الجهل الأكبر. والآن ومثلما يحتاج الأميون إلى متعلمين يأخذون بيدهم بات أنصاف المتعلمين في حاجة إلى متعلمين حقيقيين يساعدونهم على التخلص من الجهل الأكبر. وهو تحد يحتاج تضحيات مجتمعية من المتعلمين الحقيقيين لكنه يحتاج أكثر إلى استعادة الدولة للوعي بخطورة تراجع مستويات التعليم وإلا سيتواصل هبوط الدول العربية في قوائم التصنيف العالمية في كل المجالات. فالتعليم الجيد طوق نجاة من لا يعتني بسلامته تعرض للغرق.
بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
03/10/2016
11148