+ A
A -
لسنوات وككثير من الأمهات، اضطلعت بمسؤولية توصيل أبنائي للمدرسة، بالإضافة لباقي واجباتي الزوجية، ربما أبرر بذلك تأخرى الدائم عن موعد خروجهم من المدرسة.
وكان مشهد تجهمهم الساخط لتأخرى دافع لاجتهادي في ذلك اليوم لأصل قُبيل الموعد لأستحق ابتسامة محبة وبعض الغمرات التي أغروني بمنحهم إياها لو التزمت بالموعد.
ووصلت مبكراً، وكانت ابنتي الصغرى التي لم تذهب بعد للمدرسة نائمة في كرسيها الخلفي، فتركت لها المكيف مفتوح في السيارة وهرولت لأحضر باقي أولادي، لأعود عدواً، فأفاجأ بها وقد أغلقت كل الأبواب والنوافذ بضغطة زر واحدة.. حتى الجوال كان سجين السيارة.
يا ربي، أيحدث هذا وقد حققت معجزة الوصول في الموعد؟
تحدثت مع صغيرتي من خلف الشباك ثم تحول الحديث إلى استعطاف وصل لتوسلات تصاعدت لصراخ.
تجمهر الناس وشرعوا يناشدون ذات الثلاث أن تفتح، على أنها أغمضت عينها غير عابئة بالجماهير المحتشدة ثم آثرت النوم الهانئ وكأنها وحدها بمهدها في كون بلا ضجيج.
عدت للمدرسة، واتصلت بزوجي لإسعافي بالنسخة الثانية من المفتاح-التي بحوزته - لكنه كان خارج نطاق الخدمة.
تبت لطفلتي ثانياً ومكثت أسعى ذهاباً وعوداً، وصغيرتي على موقفها الرافض للاستجابة.
تابعت الدق على النافذة حتى جاءتني سيدة قطرية حاولت مساعدتي، فشاورت لابنتي بحلوى، لكن هيهات!
شرعت في التضرع ورفعت يدي لله، يا مغيث، وتوالت نصائح المارة بالاتصال بالثلاث تسعات، وللحظات اقتربت من اليأس في استجابة ابنتي لكني لم أشعر بيأس.
أخذت أقفز على باب السيارة وبدا شكلي كمهرج في السيرك.. دعوت ثانية وعاشرة وأمنّت على دعواتي أختي القطرية الطيبة وهونت عليّ وأبنائي بجانبي يصرخون: «افتحي.. افتحي» وإذ بها تنهض من سباتها لتنظر إلينا وكأن على رأسها الطير، لتعاود النوم.
أغويتها بالسكاكر وحدثتها عن «فان لاند» و«البوظة» وأغريتها بأننا سنشتري وسنذهب وسنفعل وأغرقتها بوعود الناخبين حتى شابه حالي حاكم مخلوع يستعطف شعبه للتنازل عن محاكمته.
أخيراً نهضت صغيرتي وأنا اقفز على الشباك وأتوسل إليها أن تتقدم وحديث ذو شجون وأرجوك، بدأت تستجيب وحاولت الصغيرة فتح الباب الخلفي لكنها فشلت، فدعوتها للأمامي، وكان منظر إلصاق المارة وجههم بباب السيارة يخيفها، فتراجعت، فطالبتهم بالابتعاد قليلاً حتى تهدأ، فأقبلت ثم حاولت الفتح لتستنجد بي.
وكانت السيدة القطرية واقفة بجانبي تدعو وظلت ابنتي تخطو ثم تقف وأنا أشجعها وبدأنا نصفق لها ونهلل كمشجعي فريق المنتخب في نهائي خليجي.
وحارقة كانت الشمس، حارقة علىّ وعلى المتجمهرين، حتى تصبب العرق منا، وكأننا قمنا بالعدو في ماراثون طويل، وصوت دعوات يتبعها مؤمنين، وأخيراً.. فتحت.
يا لكرمك يا رب واجتمع المدرسون وأولياء الأمور من جنسيات شتى على الفرح وكأننا عائلة، وإذ بالسيدة القطرية تقول لي: «فعلاً هذه حكايات لباقي العمر، لن تنسى، أجمعيها في كتاب يحمل هذا العنوان»، فالتفت لقولها.
لا أوقن، أقليل أم كثير هي المواقف التي نترجمها «كمستنطقات» أو رسائل نستلهم منها صوابيتنا وقراراتنا؟
أأرسلت هذه المحنة لتوحي لي بكتابة كتابي، علها تبقى في الذاكرة لباقي العمر؟
ولباقي العمر ستبقى ذاكرتنا انتقائية، نحتضن منها الأعتق والأغلى والأشد تأثيراً في جداريات أنفسنا فنخزنه ونهفو له مؤثريه على سواه بحفظه بأكثر المناطق أمناً وسلامة بدفاتر الذاكرة.
فالعمر شراعه مسافر، وجداول الذكرى تبحر فتمر، لتسقط على ضفافه اليوم وقد تغرق الغد على أنها تنقذ من أعماقه الأمس وتلقيها على رصيف مواني الحياة.
يبدو أن لكل منا له ذاكرة للذكرى وأخرى للنسيان.

بقلم : داليا الحديدي
copy short url   نسخ
05/11/2016
2455