+ A
A -
هناك نـظرية شهيرة في القرارات الاستراتيجية يٌطلق عليها نظرية التخبط MUDDLING THROUGH وتـقضي بترتيب «الاستراتيجية» عن طريق قرارات متعاقبة ومتدرجة وقد تكون متـناقضة لكنها تؤدي في النهاية إلى تحقيق الغاية والوصول للهدف الاستراتيجي المخـتـفي خلف ما يلقيه السياسيون من ابتسامات أمام الفلاشات! ما يدور في الشرق الأوسط اليوم مليء بالتـناقضات العجيـبة والقرارات المتسرعة والتسويفات والمماطلات المدروسة!
لكن يقال إنها كلها ستؤدي حتما إلى بلورة الاستراتيجية المقصودة التي تُعنى بتكوين ما يسمى «الشرق الأوسط الجديد»! والعلامة الفارقة فيه تمزيق الممزق وتـقسيم المقسم مع مخاض صعب وحروب طائـفية لا تـنـتهي!
وليس الأمر محصورا على أميركا بسياساتها المشوشة ومواقفها المتـناقضة في المنطقة بل حتى روسيا وإيران ودول الاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية يتبعون سياسات غير ثابتة وكأنه لا هدف لها في المنظور القريب لكن على المدى الطويل في أنيابها العطب! روسيا على سبـيل المثال تدخلت في سوريا ثم أعلنـت الانسحاب بدون تحقيق شيء يذكر على الأرض ثم عاودت التدخل العنيف بالقصف الأعمى وإحراق الأخضر واليابس لكن بدون تحقيق شيء يذكر كذلك! ثم أعلنـت هدنة من طرف واحد واخـترقـتها من طرف واحد وأعلنـت عن هدنة أخرى لكن القصف لم يتوقف ودماء الأبرياء لم تـنـشف، والتـخبط الروسي مازال مستمرا!
أميركا تحت ظل إدارة أوباما هي (المتـخبط الأكبر) فيما يتعلق بأزمات الشرق الأوسط لكنه كما يـبدو تـخبط مقصود فأميركا هي الدولة المعنية بالوصول للهدف بصفـتها الفاعل الرئيس أما الدول الأخرى، بما في ذلك روسيا، فهي أدوات! ملامح التـخبط والتـناقض الأميركي تـتبـين من مواقف الإدارة الأميركية من أمور عدة أهمها ثلاثة: 1- نظام الأسد وشرعيته، 2- تدخل إيران وميليشياتها خاصة حزب الله في الحرب السورية، 3- محاولات تركيا ودول الخليج وأصدقاء سوريا التعامل مع الأزمة الإنسانية وميزان القوى المتأرجح في سوريا.
في وقت من الأوقات كان الصوت الأميركي عاليا بل أعلى الأصوات التي تردد «إن نـظام الأسد فقد شرعيته»! وتـقول «لا بد أن يرحل نظام الأسد حالا»! وتـتوعد «استـخدام الكيماوي خط أحمر»!! لكن أميركا بلعت كلامها كله وبلعت خطها الأحمر وهرولت للمفاوضات السياسية العقيمة في جنيف وفيينا ولوزان، بدون فائدة تـذكر! الأدهى والأمر أن أميركا ظلت تـضغط على أصدقاء سوريا والمعارضة السورية للمشاركة في المفاوضات والمباحثات التي تبـين أن لا هدف لها إلا شراء المزيد من الوقت لضمان سيطرة نـظام الأسد على الأرض والسماء! أما «الخط الأميركي الأحمر» فقد ظهر جليا بمنع تسليح الثوار السوريين بالأسلحة التي تصنع الفرق وانطلق الصوت الأميركي عاليا وجادا يقول «الويل والثبور لمن يحاول تسليح الثوار السوريين»!!
فيما يتعلق بتدخل إيران وميليشياتها ضد الشعب السوري الأعزل، كان الموقف الأميركي متـناقـضا مع نـفسه ومع القيم التي تدعيها ومتـناقـضا كذلك مع دعاوي الحرب على الإرهاب! بمنـتهى البرود سمحت واشنطن لنظام الأسد والحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني وبقية الميليشيات الشيعية المنـقولة جوا من أفغانستان وباكستان وغيرها والمتسللة أرضا من العراق بقـتل أكثر من نصف مليون سوري! بل وأمعنـت أميركا بمنع أصدقاء سوريا من تـقديم المساعدة للثوار السوريين سواء عسكريا أو سياسيا بمنطق «دعوا الطائفيين يعملون ويكّملون المهمة»! تـظهر قماءة التـناقض في كون أميركا تصمت عن الإرهاب الدولي العابر للحدود الموجه نحو الشعب السوري وتصمت عن التدخل الروسي والإيراني المخالف لجميع القوانين الدولية والاعتبارات الإنسانية وتصمت عن جماعة حزب الله المصنفة إرهابية! ثم تعزف سيمفونيتها المشوهة بضرورة حشد العالم للحرب على الإرهاب!
ويتـزايد التـناقض الأميركي في موضوع المنطقة الآمنة التي تحاول تركيا تأمينها لمقاصد أغلبها إنسانية في صالح الشعب السوري المشرد، واستراتيجية لمنع تمدد تـنظيم الدولة أو بعض الجماعات الكردية (المصنـفة إرهابـية) وتمكنها من إرباك المشهد وخلط الأوراق! أميركا التي تـنادي بمعالجة أزمة المهجرين السوريين المنسيين في أعماق البحار أو في شوارع أوروبا الخلفية، لا تـشغل نـفسها بحل أزمة السوريين على أرضهم وظلت تعارض مقـترح المنطقة الأمنة حتى سعت تركيا لفرضه كأمر واقع!
هناك نـظرية شهيرة في اتـخاذ القرارات اسمها صندوق القمامة (هكذا) GARBAGE CAN ويـبدو أن القرارات التي تـتخذها أميركا، وروسيا وإيران ونظام الأسد، بخصوص الأزمة السورية وأزمة الشعب السوري المعذب ليست بعيدة عن هذه النـظرية وليست بعيدة عن الغاية الاستراتيجية المقصودة للشرق الأوسط الجديد وذلك بتسهيل انبعاث حرب طائـفية شرسة المنـتصر فيها أصدقاء نـظام الأسد والمهزوم فيها أصدقاء الشعب السوري والأمر ذاته ينطبق على الأزمة العراقية المتـشعبة، ولا تسأل عن العرب؟!
بقلم د. صنهات بن بدر العتيـبي
copy short url   نسخ
08/11/2016
2630