+ A
A -
هل نحترس من الخير الزائد خشيتنا من الشر المفترض؟ أم ترانا نرتاب من الخير حيطةً، لتوقعاتنا الدائمة للشر الأعم؟
بحسب جبران فإن:
الخير في الناس موجود إذا جبروا.. والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا.
لكن بحسب الواقع فإن البشر ذبحوا المجرمين الأشرار كما قتلوا الأخيار!
وعبثاً لو تحاول إقناع محيطك في أن الخيرية هي القاعدة وأن الشر استثناء.. لكنّ ديدنهم توخ الحذر، انطلاقا من مبدأ درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
وأراهن على أنك لو فتحت حديثاً مع أي كائن بشري وخيرته بين خيرية مجتمعه من شره، لاختار السالب وأدمغه بعشرات القصص والمرويات.
وقد خطر لي أن أبحث عن مفردتيّ «خير، شر» في محرك «جوجل» للبحث، فظهرت النتائج كالتالي: 152 مليون باحث عن الخير وزهاء 38مليون من الباحثين عن الشر.
ورغم أن النتيجة مبشرة وتظهر اهتمام البشر بالخير أضعاف عنايتهم بالشر إلا أن محصلة كتلك لا تنهض دليلاً يُنصف خيرية بني أدم لو أردت إقناع أناس زُرعت الريبة في نفوسهم والمِرية في قلوبهم وحصدوا الشر من أرض الواقع، فلم يجدوا فلاحاً يذكر!
وعُرف عن العرب في الماضي أن منهم من كان يَعمد لكتمان المواقف المخيبة التي تعرض لها خشية أن تضيع المروءة بين الناس، وأرى أن خصلة كتلك اندثرت في مجتمعات باتت تتسابق في ماراثون عرض المصائب والتمعيش بالبلايا.
وقل من يوازن بين كفتي الخير والشر في ميزان الحياة وأقل منهم من يعتقد أنهما يتسابقان في محيط الحياة كما فعل الشاعر المغربي حمداتي ماء العينين حين كتب:
يا عجبـا للخير والشر في الدهر شراعهمــا في موج عاصف يجري
هل تَصدُق مقولة سيد قطب في أن بذرة الشر تَهيج لكن بذرة الخير تُثمر؟ كنت أعتقد اعتناقي للنظرة التفاؤلية إلى أن جاء يوم صاحبت فيه زوجي صبيحة رمضان بمدينة عجلون بالأردن.
وبالعصاري، قررنا النزول لعمّان لتناول الإفطار.. ولكننا تأخرنا فلم نجد سيارة توصلنا، فجلسنا في حانوت صغير بائس بكل ما تعنيه الكلمة لعدم وجود أي آخر، وطلبنا حساء لكسر الصيام، فوجدنا النادل يرص أطباقاً من اللحم والأرز والخضار والعصائر، فأخبرناه أننا لم نطلب ذلك، فابتسم ثم رفض أن ندفع ثمناً لطعامنا وأخبرنا أنه مصري وقد عرف أننا مصريون من لهجتنا، فقرر ضيافتنا، فلم يقبل زوجي، لكن الأخير أصر لأننا «بلدياته»!
وحين أردنا المضيّ، أحضر لنا تاكسي وركب معنا ودفع عنا الأجرة مضافاً اليها خمس دنانير بقشيش بعد أن أوصى السائق لتوصيلنا لا فقط لعمّان، لكن لباب النُزُل.. وهنا بلغت ريبتنا مداها ولم نرتاح من خيريّته إلا حين مضى لسبيله، فتيقنت أننا نحرص على الخير لكننا نحترس منه.
وحدث أن كنت يوما ببيروت وأردت تناول العشاء بمطعم «أم شَريف» الكائن بزاوية بأحد الشوارع القريبة من السوليدار، وقد أوصلني سائق الفندق لناصية الحارة، وكنت أمشي وحدي، فإذا بفتاة في العشرينات تقف بسيارتها، وتدعوني لتوصيلي فمُلئت رُعباً واعتذرت شاكرة فقالت: «تقبريني، كمان بتحكي مصري»
فانطلقت عدواُ ريبة في دوافعها وانهارت في ثانية جُل معتقداتي في خيرية البشر.
يبدو أننا نثرثر نظرياً بالخير ونشيعه في ظلال النفس بعد تأبينه، لكن عملياً، نستعيض بالحذر من خطى الشر في أحياء الدهر.
ساعة الرمل خيرات
لا ترى لها عقارب
لا تسمع لها دقات
كلما مضى الوقت
افرغها الوري للشر
فدار عليه الخير بالانقلابات

بقلم : داليا الحديدي
copy short url   نسخ
12/11/2016
3258